strong>المخرجة السويسريّة حوّلتها «ثائرة» تراجيديّة من الشرق لم تجد المخرجة السويسريّة آنيا تملر صعوبةً في مسرحة النص الإغريقي المؤسس في سياقٍ لبناني: العنف، والاقتتال بين الإخوة، ومساحة الفرد وسط الجماعة، والسلطة والموت من أجل قضيّة... كلّها ثيمات تبدو بيروت المكان الأرحب لها

سناء الخوري
بطلة التراجيديا الإغريقيّة المطلقة تحطّ رحالها في بيروت. مغريةٌ الفكرة وملهمة. سيتعمّد نصّ العرض الأصلي كما خطّه سوفوكليس (496 ق.م ـــــ 406 ق.م.) قبل أكثر من ألفي عام، بذكريات عاصمتنا وبغضب أبنائها العاجزين غالباً، والعبثيّين حدّ المأساة دائماً.
في «(ب ي ر و ت) أنتيغونا» الذي يستضيفه «مسرح مونو» بدءاً من اليوم، نستعيد النصّ في سياق لبناني معاصر متلوّ بالفرنسيّة. في الحقيقة، لم تجد المخرجة السويسريّة آنيا تملر صعوبةً في مسرحة النص الإغريقي المؤسس في سياقٍ لبناني: يبدأ كلّ شيء في المسرحيّة ومدينة طيبة خارجةٌ من حرب أهليّة ضروس... وجدت السياق مؤاتياً وجديداً ومبتكراً. على الأرجح، لم يتح للفنّانة القادمة من أوروبا الاطلاع على الإبداعات اللبنانيّة التي تتناول معظمها مدينة تتسكع فيها أشباح الحرب الأهلية.
تملر التي أدّت دور أنتيغونا مراراً، صعقت بالإضاءات التي يلقيها واقعنا على النصّ الأصلي لدى زيارتها لبنان ربيع عام 2008. يومها، أتت لاستكمال مشروع تربوي مسرحي، انطلق في سويسرا عام 2004. تقاطع عملها مع ممثلين لبنانيين وسويسريين في المدارس اللبنانيّة، مع أحداث 7 أيار (مايو). تكتب آنيا تملر في مدونتها أن ممثليها كان يتمرنون على بعد أمتار من «مخيم حزب الله»، وتبدي إعجابها بأبناء الشعب «العظيم» الذين يتقاتلون في الشوارع، ثمّ يحتفلون حول كأس نبيذ في شوارع أخرى».
الممثل الشاب ألان سعادة يلفت بأدائه دور كريون الذي جعله على صورة زعمائنا
لكن بغضّ النظر عن مقاربات قد تبدو استشراقيّة وغارقة في الكليشيه، يعود بنا الأداء المسرحي المتقن، واللعبة الإخراجيّة الممسوكة إلى أسئلة النص الأولى بتأويلاتها اللبنانيّة. الليلة إذاً، نحن على موعد مع عمل مشهدي مبتكر لأنتيغونا، بمشاركة آلان سعادة وساندرا ملحم وشيرين خوري وخالد الخوري على المسرح. التراب الذي ستدفن فيه أنتيغونا جثّة أخيها بولينيس رغماً عن أنف خالها كريون، يحتلّ وسط الخشبة. اللعبة كلّها تدور في حلبة مربعة ممتلئة بالرمال. هنا يتداخل الحقيقي بالمتخيل، ويتحوّل توزيع الحوار بين الممثلين وصوت الكورس إلى ما يشبه لعبة «أبطال وحراميّة». كلّ شخصيّة تؤدي دورها وهي مدركةٌ للعبة، تعاونها أزياء مفرطة في غرائبيتها. يضع كريون على رأسه مثلاً تاجاً من ريش، ويرتدي حذاءً رفيعاً يشبه أحذية نجوم الفيديو كليبات اللبنانيّة. في السياق نفسه، يظهر خالد الخوري في دور الحارس الخاضع والمتملق، واضعاً على كتفه رشاشاً بلاستيكياً، ثمّ يطل لاحقاً في دور هيمون العاشق المفجوع بقرار إعدام حبيبته، حاملاً «ستيريو» يبثّ أغنية عاطفية. هكذا يتداخل في اللعبة الحميم والعام. يبلغ هذا التداخل أقصاه في صراع أنتيغونا/ كريون الشهير. ألان سعادة يلفت بأدائه. يبدو كريون، على يد الممثل اللبناني الشاب، طاغية على صورة زعمائنا. ينجح الممثل في وضع الشخصيّة التراجيديّة في قالب كاريكاتوري ساخر، ويحوّلها إلى الرابط الحقيقي بينالنص الأصلي وواقع اللبنانيين الراهن. نرى خال أنتيغونا الظالم، يتخذ أوجُهاً عدة: هو تارةً زعيم عصابة يأمر بالقتل والسجن، وطوراً رجل شرقي ينزع حزامه لينهال به ضرباً على البطلة. الشخصيّة كما يقدمها العرض بكل تردداتها، تضعنا وجهاً لوجه أمام منطق القوّة والكبت والقمع كما يمارسه الرجل على المرأة، والطاغية على شعبه. يطرح العرض أسئلة العنف، والاقتتال بين الإخوة، ومساحة الفرد وسط الجماعة، والسلطة، والموت من أجل قضيّة. أسئلة طرحتها المأساة الإغريقيّة الشهيرة منذ كانت طقساً جماعياً مقدساً، تؤديه «المدينة» ـــــ كهويّة سياسيّة ديموقراطيّة مستجدة على عهد سوفوكليس ـــــ ويرفعه أعيان القوم لديونيزوس إله الخمر في عيده. القراءات الحديثة والمعاصرة للأسطورة، ذهبت إلى معالجات أكثر ذاتيّة، أسبغت على أنتيغونا صورة المراهقة الثائرة المشاكسة، التي تقول «لا». أشهر الاقتباسات المعاصرة للنص التي وقعها جان أنوي (1943)، أعادت موضعة التراجيديا، في أجواء الحرب العالميّة الثانية، كتحيّة مبطّنة للمقاومة الفرنسيّة... حين عرضت للمرة الأولى، فهم بعضهم أنّها تمجيد لمنطق الطاغية كريون الذي يؤدّب تلك الثائرة الملعونة. كل التأويلات ممكنة للأسطورة، وكل الأزمنة أيضاً، وهذا ما قد ينطبق أيضاً على تلقف الجمهور اللبناني لخطاب العرض. من المقاوم؟ ومن الطاغية؟
يأتي كلّ ذلك وسط ديكور مبسّط، يشبه المرايا أو ستائر مسرح الظل الصيني. تبثّ عليه مصمّمة الإضاءة كريستيل باري أشكال حرب وطائراتٍ تعبر السماء، يضيف إليها فيكتور بريس موسيقى صاخبة وأصوات رشاشات وقذائف. وحدها أنتيغونا (شيرين خوري)، تحتفظ بطابعها الأسطوري: ترتدي الأسود طيلة الوقت، تحفر في التراب، تصرخ في وجه خالها الطاغية كريون، وتشنق نفسها في النهاية. في «(ب ي ر و ت) أنتيغونا» كما تراها تملر، تتماهى مع جيلها من الشباب اللبناني. نراها بطلةً تراجيديّة خاماً، وقرباناً تفرغ عليه المدينة كلّ حقدها وقهرها وغضبها.


8:30 مساء اليوم حتى 11 ك1 (ديسمبر) الحالي ـــــ «مسرح مونو» (الأشرفية/ بيروت) ـــــ للاستعلام: 01/202422