ملعب كرة يحتضن المأساة العراقيّة، وفيلم يختزل الصراع إلى تجلياته القوميّة والعرقيّة... فيما الأميركي مجرّد «حكم»
زياد عبد الله
الملعب بات مخيّماً للاجئين في «ضربة البداية». فيلم شوكت أمين كوركي يأتي من ذاك المكان الذي يختزل الوجع العراقي، من خلال نسجه حكايةً تتخذ من الملعب ـــــ المخيم مكاناً لأحداثها، ويُصبح كلّ ما هو خارجه مساحةً منذورة للقتل. كوركي (1973) الذي ولد في زاخو (كردستان العراق) ودرس السينما في إيران حيث أمضى طفولته، ولم يغادرها حتى عام 1999، يقدّم هنا ثاني أعماله الروائية الطويلة بعد «عبور التراب» (2006). في الفيلم الأول التي تدور أحداثه خلال الغزو الأميركي للعراق، روى كوركي قصة فتى عراقي يُدعى صدام ضلّ طريقه إلى البيت، فعثر عليه مقاتلان من قوات البشمركة، لكل منهما معاناته مع نظام صدام حسين، وأسبابه الكثيرة كي يكون اسم الفتى محطّ اختبار لمشاعره الإنسانية.
فعل المجاورة بين العرب والأكراد حاضر أيضاً في «ضربة البداية». يبدأ الشريط من القبر ومراسم الدفن والندب، ويمضي مع فتى صغير مبتورة رجله يرتدي سترة رياضية مكتوب عليها «زيدان» نسبة إلى اللاعب الشهير. هذه السودواية سرعان ما تنقلب إلى نبش لحياة سكان المخيم ـــــ الملعب، وتكون كرة القدم البؤرة التي تنطلق منها أحداث الشريط. سنتعرّف إلى آسو (كوار رسول) وأخيه الذي فقد رجله بعد انفجار لغم به. وسيكون اللقاء الكروي في نهائيات كأس آسيا بين المنتخب السعودي والمنتخب العراقي مساحةً للاحتفال حين تُنصب شاشة أو قماشة بيضاء تتدلى من المرمى، ويتحول فعل مشاهدتها إلى إنجاز يحقّقه آسو لإخراج سكّان المخيم من بؤس حياتهم. وتتبع ذلك فرحة النصر بعد حوارات جانبية تمضي خلف انحيازات عربية وكردية. بعد ذلك، ينظّم آسو بطولة بين أطفال المخيم، لتبدأ الانقسامات التي تعكس العراق اليوم: لدينا فريق عربي وآخر كردي وآخر آشوري. ثم ينجح آسو في تجاوز الخلافات التي تنشب بين الفرق على حكم المباريات، وإذا بصحافي أميركي موجود في المخيم «بالمصادفة»، يصبح الحل الذي يقبل به الجميع، كما لو أن النزاعات تتمركز فقط بين القوميات والأعراق في العراق، فيما الأميركي مجرّد حكم... وليس محتلاً!
تفاصيل كثيرة يمضي خلفها كوركي تمنح الفيلم رشاقته، كأن نغوص في شخصيّة آسو المثالي. رغم ديونه المتراكمة، يصرّ آسو على متابعة الصحف وشراء الكتب من البائع الذي يأتي يومياً بسيارته المحمّلة بما يحتاج إليه أهل المخيم، كذلك سنشاهد المواقف الطريفة التي تحدث هنا وهناك رغم بؤس الحياة.
يترافق ذلك مع حبّ آسو البريء لجارته هيلن (شوان عطوف) التي تكون من أم عربية وأب كردي، ومن ثم النهاية المأساوية التي

الكلمة الأخيرة للموت... فالإرهاب لن يوفّر أحداً

تكون في انتظاره عند ذهابه لشراء كأس يتوِّج به الفائز في لعبة الفريق العربي مع الفريق الكردي. هذه اللعبة التي لا تنتهي بخاسر أو فائز، فكلّ الخسارة ستتجسّد في آسو نفسه وما يمثّله من أمل. وبناءً عليه، فإنّ العراق ـــــ بكل تعقيدات وضعه وأطيافه وأعراقه ـــــ سيكون حاضراً من خلال إملاءات ما يجتمع في الملعب، لكن خارج أي إشارة إلى الاحتلال الأميركي كما لو أنه غير موجود إلا عند الحاجة إليه في تحكيم المباراة والتوفيق بين الفريق العربي والكردي.
يمنح كوركي مساحةً لمشاهدة وعورة الحياة في المخيّم. وليس مشهد وصول صهريج المياه، وتقاتل السكان مع صاحبه، إلا معبراً أوّلياً لتجسيد هذه الوعورة. كذلك فإن المسؤول السياسي العراقي الذي يزور المخيم، سيأمر بإخلائه من أجل استغلاله في مشروع استثماري مُربح.
يستثمر المخرج موقع التصوير بجماليات خاصة تتخذ غرائبيتها من غرائبية الواقع المرصود، إذ إنّ لكلّ شيء مفارقاته. سنرى مثلاً كيف أنّ كل ما في المخيّم وما حوله هو ضد الحياة، بينما كل ما نشهده هو إصرار على الحياة، وعلى اللعب والشعر، وبالتأكيد ذلك الحب البريء الذي يجمع آسو بهلين. لكن سرعان ما ينتصر الموت كما لو أنّ هناك ثمناً يجب أن يدفعه كلّ مَن يصرّ على الحياة والأمل. هكذا، سرعان ما يبتلع الجحيم الذي يحاصر المخيم الصبي آسو، لأنّ الموت متوافر دوماً وينادي الجميع، عرباً وأكراداً... والإرهاب لن يوفّر أحداً!