موجة أعمال تعكس تغيّر القيم والمعاييرعثمان تزغارت
من سلسلة Twilight الهوليودية إلى «عطش» الكوري بارك شان ـــــ ووك، تعود أسطورة دراكولا إلى واجهة السينما العالمية، كلّما واجه العالم أزمةً كبرى. مصّاص الدماء الشهير الذي ابتكر شخصيته برام ستوكر، عام 1897، اعتاد أن يطلّ ليجسّد «رُهاب الموت» والخوف من المجهول الذي يتملّك الناس خلال الأزمات. الاقتباس السينمائي الأول الأشهر لرواية دراكولا (إخراج تود برونينغ ـــــ 1931) جاء في خضمّ الهزة العالمية التي أفرزتها أزمة 1929 المالية. وحين صوّر جورج روميرو «ليلة الموتى الأحياء» عام 1968، كانت الولايات المتحدة في أوج أزمة حرب فيتنام. أما فيلم «المفترسون» لتوني سكوت (1983)، فقد جاء بعد أشهر من بروز عدوى الإيدز. ما يفسر الرّواج العالمي للشريط، حيث كانت رمزية مصّاص الدماء أفضل تورية لتصوير الهزة التي ستتركها سنوات الإيدز في المخيّلات. الدّم هنا أصبح رمزاً للتلويث المميت، ولم يعد له ذلك الألق الإيروسي الذي تمتزج فيه اللذّة بالألم والخوف، كما في شخصية دراكولا الكلاسيكية التي جسّدها على الشاشة كريستوفر ليفي 1992، قدّم كوبولا «دراكولا» الذي انتقل بمصّاص الدماء من أفلام الرعب إلى سينما المؤلف. فقد تناول صاحب Apocalypse Now دراكولا في صورة غير مسبوقة. جعله كائناً لا يخيف الآخرين، بقدر ما يخاف هو ذاته ويشعر بالضياع حيال العصرنة المتسارعة والمستقبل الغامض، ما عكس القلق الوجودي الذي برز آنذاك، إثر الهزة العالمية التي نجمت عن انهيار الكتلة الشرقية ونهاية الحرب الباردة.
كان يجب انتظار 1994، ليعاد الاعتبار إلى «إيروسية الدّم» عبر فيلم «حوار مع مصاص دماء» الذي اقتبسه نيل جوردن عن رواية بالعنوان نفسه لآن رايس صدرت عام 1976، وكانت أول عمل أدبي وظّف رمزية دراكولا لتجسيد «إيروسية مثلية». اقتبس نيل جوردن تلك الرواية في شريط من بطولة براد بيت وتوم كروز. لم تكن هوليوود لتغامر في تناول قصة حب مثلية، ولو اندرجت ضمن رمزية مصاصي الدماء، لولا أن ذلك الفيلم جاء في أوج انتفاضة المثليين في الولايات المتحدة إثر الهجمات التي طاولتهم بسبب عدوى الإيدز.
مع انفجار الأزمة المالية في صيف 2008، كان طبيعياً أن تعود رمزية دراكولا إلى الواجهة لتجسد مجدداً، مشاعر الخوف من المجهول التي ألقت بظلالها على العالم بفعل هذه الأزمة التي فجّرها «مصاصو دماء» الليبرالية المتوحشة.
يقول الباحث الفرنسي جان ماريني، مؤلف كتاب «الولع بمصاصي الدماء»: «في الأصل، اندرج النجاح الأدبي لرواية «دراكولا» لبرام ستوكر ضمن الأزمات السياسية والأخلاقية والوجودية الكبرى التي واكبت صدورها، والمرتبطة بنهاية العهد الفيكتوري، وبداية تفكك الإمبراطورية البريطانية. والعودة القوية لرمزية دراكولا إلى الواجهة حالياً تفسّرها أسباب مماثلة. ما يشهده العالم، منذ انفجار الأزمة المالية في صيف 2008، ليس مجرد أزمة اقتصادية، بل هو أيضاً أزمة أخلاقية أصابت النظام الليبرالي في الصميم، وأفرزت التباساً غير مسبوق في مفاهيم «الخير» و«الشرّ»، لأن عشريّة كاملة من «البوشيّة» تركت بصمات عميقة في الضمير الإنساني». ويضيف ماريني: «هذا الالتباس في القيم، انعكس على رمزية دراكولا ذاتها. في الرواية الأصلية والأفلام الكلاسيكية المقتبسة منها، كان دراكولا يجسّد الشرّ المطلق. أما في هذه الموجة الجديدة من أفلام دراكولا، فإن مصّاصي الدماء يتّخذون طالعاً أكثر إنسانية، حتى إنهم في سلسلة Twilight أصبحوا يجسّدون الخير في مواجهة شرّ غير ظاهر للعيان. ما يعكس الالتباس الحاصل على خطوط التماس بين «محور الخير» و«محور الشرّ» وفقاً للتوصيف البوشي». بارك شان ـــــ ووك، الذي أبهر العالم قبل عامين، بفيلمهOld Boy، عاد إلى «مهرجان كان» الأخير بفيلم فجّر قنبلة على «الكروازيت». إنّه Thirst (عطش) الذي جسّد التباس القيم الذي يمثّل سمة المرحلة الراهنة في التاريخ الإنساني، عبر حكاية قسّ يتحوّل إلى مصاص دماء. ما يزجّ به في تمزق داخلي قاس، بين التقوى الدينية التي رهن لها حياته والرغبة الإيروسية الدموية التي تسكنه.

«عطش» جسّد التباس القيم الذي يمثّل سمة المرحلة الراهنة في التاريخ الإنساني

إذا كان المعلم الكوري قد قدّم في Thirst فيلماً إيروسياً بامتياز، فإنّ سلسلة Twilight (صدر منها فيلمان وانتهى تصوير فيلمين آخرين سيجدان طريقهما إلى الصالات هذا العام)، قدّمت مصاصي الدماء في صورة منقّحة تجعلهم أبطالاً عصريين في متناول الجمهور.
ظاهرة Twilight بدأت أدبياً، إذ أصدرت ستيفاني ماير رواية من 4 أجزاء، ثم اقتُبست في سلسلة سينمائية حقّق الجزء الأول منها عائدات فاقت 70 مليون دولار، فيما يتجه الجزء الثاني لتحقيق ضعف هذا الرقم. ولا شك في أن سرّ هذا النجاح يكمن في تحديث صورة دراكولا لجعله بطلاً إيجابياً. في روايته الأصلية، حدّد برام ستوكر مواصفات شخصية «دراكولا»، كالتالي: «عيون غائرة، يدان شديدتا النحافة، وجه ممتقع، نفَس كريه، وبشرة شديدة البرودة». أما بطل Twilight، كما جسده على الشاشة روبرت باتنسون، فإنه شاب وسيم يواكب الموضة والعصر عبر سمة أساسية تتمثّل في الوعي الإيكولوجي الذي يفرز هنا جيلاً متمرداً من سلالة دراكولا ترفض مصّ الدماء وتتبنّى التوجّه الغذائي... النباتي!

موسم حافل بـ... مصّاصي الدماءالسينمائي غيليرمو ديل تورو، الذي سبق أن صوّر مصاصي دماء في اثنين من أشهر أفلامه (Cronos ـــــ 2 Blade)، أصدر مع السيناريست تشيك هوغان، رواية تلقى حالياً رواجاً عالمياً، بعنوان «السلالة». تصوّر الرواية دراكولا في طابع عصري، عبر شخصية عالم جينات لا ينقل العدوى إلى ضحاياه من خلال مص الدماء، بل عبر تعديل جيني يسبّب عدوى غامضة تحوّل الإنسان إلى وحش كاسر. وقد أسهم في رواج هذه الرواية ـــــ تكوّن الجزء الأول من ثلاثية أعلن ديل تورو أنه سيقتبسها سينمائياً بنفسه ــ صدورها بالتزامن مع انفجار عدوى أنفلونزا الخنازير.
رواية أخرى ستجد طريقها إلى السينما هي «ظلال الريح» للإسباني كارلوس رويز زافون، التي بيعت منها 10 ملايين نسخة عبر العالم في الأشهر الأخيرة. بينما يعكف السينمائي تيم بيرتون حالياً على وضع اللمسات الأخيرة على سيناريو شريط سيشرع في تصويره الصيف المقبل (بطولة ممثله الأثير جوني ديب)، مقتبس عن مسلسل مصاصي الدماء الشهير Dark Shadows.

ريدلي سكوت وغيليرمو ديل تورو وتيم بيرتون وآخرون


أما ريدلي سكوت، فيستعد لتصوير فيلم مقتبس من رواية The Passage التي تحكي قصة مدينة تعصف بسكانها عدوى قاتلة، ثم يجدون الخلاص في آخر لحظة بفضل عضّات خفافيش مصاصة للدماء!
كل هذا ينبئ بأن الموسم السينمائي المقبل سيكون حافلاً بأفلام مصاصي الدماء. وهو ما تسعى دور النشر إلى مواكبته عبر إطلاق سلاسل أدبية مقتبسة من «دراكولا». حتى سلسلة قصص الحب الرومانسية الشهيرة Arlequin، تستعد لإطلاق سلسلة خاصة تحمل عنوان Nocturnes، تروي قصص مصاصي دماء موجّهة إلى الشباب والمراهقين، على شاكلة Twilight! بينما تلجأ دور نشر أخرى إلى إصدار روايات مصاصي دماء مستوحاة من عوالم عدد من كلاسيكيات الأدب. البريطاني غراهام سميث، مثلاً، استلهم من رائعة مواطنته جين أوستين Pride and Prejudice رواية ساخرة بعنوان «غرور وأفكار مسبقة.. وأحياء ـــــ موتى» جعل فيها بطلات الرواية الكلاسيكية، الأخوات بينيت الخمس، يحاربن جيشاً من مصاصي الدماء والأحياء ـــــ الموتى الذين يحاولون غزو إنكلترا!