بغداد ــ في خضمّ المباحثات لإعلان تشكيلة الحكومة العراقيّة الجديدة، سعى مثقّفو العراق للضغط باتجاه اختيار وزير ثقافة يمثّل تطلعاتهم. لكنّ وزارة الثقافة لم تنجُ من معايير المحاصصة، فبدت كغيرها من الوزارات، خاضعةً لشروط الصفقة النهائية التي تعرف اليوم، في إطار المحاصصة السياسيّة بين الكتل الفائزة.قبل أيام، أطلق الشاعر حميد قاسم، والمخرج فارس طعمة التميمي، والسيناريست حامد المالكي، والكاتب نعيم ساجت مبادرة «من أجل ثقافة بلا محاصصة». وعلى حائط مجموعتها على «فايسبوك»، نشرت المبادرة بيانها الأوّل. ذكّرت المجموعة بما آلت إليه حال الوزارة التي توالى عليها «مدير لشركة تنتج العلف الحيوانيّ، وضابط متقاعد في الشرطة، ليعقبه زعيم عصابة إرهابيّة (...)، ثم أكاديميّ نحترمه، غير أنّه لا صلة له بإدارة شؤون الثقافة العراقيّة».
«من أجل ثقافة بلا محاصصة» لم تكن المبادرة الوحيدة. دعت مجموعة مثقفين في بيان أصدرته أخيراً إلى إنشاء «برلمان الثقافة العراقي»، على أنّ يضمّ 325 مثقّفاً عراقياً، بعدد أعضاء مجلس النواب، ينتخبون مرشّحهم لتحمّل مسؤوليّة وزارة الثقافة، ورفع قدرها، بما لا يجعلها «وزارة تافهة»، كما صرح بعض السياسيّين ازدراءً لها، واستهانة بدور المثقّف العراقيّ. ومن بين محاولات إنقاذ الموقف، الاعتصامات التي قادها «اتحاد أدباء العراق» في فروعه في المحافظات للمطالبة بتحييد وزارة الثقافة عن المحاصصة. وكان الاتحاد قد وجّه رسالة (راجع الإطار) إلى الرئاسات العراقيّة الثلاث (الجمهوريّة، مجلس الوزراء، ومجلس النواب)، يستهجن فيها «مظاهر العداء المكشوف والمقنّع للثقافة والمثقّفين، وإهمال الملف الثقافيّ من جانب السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة»، مطالباً بإسناد وزارة الثقافة إلى «إحدى الشخصيات الثقافيّة العراقيّة».
لكنّ كلّ المحاولات ذهبت هباءً... في الأيام القليلة الماضية، أشيع أنّ القياديّة في «القائمة العراقيّة» ميسون الدملوجي ستتسلّم مسؤولية وزارة الثقافة. والدملوجي علمانيّة وناشطة في مجال حقوق المرأة، وقريبة من أوساط الفنّانين التشكيليين، لكونها حاصلة على الماجستير في الهندسة المعمارية من لندن عام 1990. واعتقد كثيرون أنّ المثقفين سيجدون في تعيين الدملوجي خطوة إيجابيّة لكونها «لن تُقدم على محاربة المنحوتات العارية وتهجيرها من باحة «معهد الفنون الجميلة» في بغداد»، على حدّ تعبير بعضهم. لكنّ رئيس الوزراء نوري المالكي لم يعطِ ضوءه الأخضر لاسم الدملوجي. هكذا بقي الإرباك حول اسم وزير الثقافة سائداً حتى لحظة كتابة هذه السطور، عصر أمس، وبقيت الكتل تتقاذف هذه الحقيبة بين ساعة وأخرى. وكانت الأنباء قد تحدّثت عن رغبة المالكي بمنح وزارة الثقافة لـ«كتلة الوسط» والحزب الإسلامي المنضوي فيها، على أن يتولّاها القيادي في الكتلة سليم الجبوري. وبين المرشّحين للمنصب أيضاً (عن كتلة الوسط)، سعدون الدليمي الذي كان وزيراً للدفاع في حكومة ابراهيم الجعفري منذ 4 أعوام، ثمّ أعيدت حقيبة الثقافة إلى «القائمة العراقيّة»، لكنّ هذه الأخيرة استبدلتها بحقيبة العلوم والتكنولوجيا، لتذهب الثقافة إلى «التحالف الوطني» (المالكي).
هذا الإرباك يشير إلى التعاطي المستهتر للكتل السياسيّة مع وزارة الثقافة، وغياب أي استراتجية واضحة للاهتمام بملفها، منذ الغزو الأميركي عام 2003. يكفينا أن نعرض مسيرة من أداروا دفّتها خلال الأعوام السبعة الماضية. كانت البداية مع القيادي في الحزب الشيوعيّ العراقيّ مفيد الجزائري، الحائز ماجستير في الصحافة من براغ. عيّن الجزائري وزيراً في أوّل حكومة عراقيّة بعد الاحتلال برئاسة إياد علّاوي، وحظي بقبول في أوساط المثقّفين، لكنّ فترة ولايته القصيرة لم تكفه لاستكمال المشروع الذي بدأه مع مستشار الوزارة آنذاك المفكر الراحل كامل شياع. في عهد حكومة ابراهيم الجعفري عام 2005، عيّن نوري الراوي في منصب وزير الثقافة. وكان من المفارقات أن يتماثل اسم الوزير مع اسم الفنّان الرائد نوري الراوي، ما جعل المثقفين يستبشرون خيراً في البداية، إلا أنّهم صدموا لدى معرفتهم بأنّ المقصود هو مرشح «حزب الوحدة»، وهو رجل لم يسمع عنه الوسط الثقافي شيئاً، سوى أنّه تاجر سابق للأعلاف في العراق. في حكومة نوري المالكي عام 2006، تولّى حقيبة الثقافة مرشح «جبهة التوافق» أسعد الهاشمي، وكان خطيباً في أحد الجوامع في بغداد... لكنّ اختياره لم يمرّ بسلام، إذ أصدرت محكمة الجنايات المركزيّة في الكرخ حكماً غيابيّاً بالإعدام بحقه، بتهمة قتل نجلي النائب مثال الألوسي عام 2005، ثمّ حلّ مكانه في الحكومة نفسها الأكاديميّ ماهر الحديثي الذي حاول استيعاب تنوّع الوسط الثقافيّ، إلا أنَّ خبرته المتواضعة لم تسعفه في أن يقدّم ما هو مطلوب لإدارة هذه الوزارة. لم يبق لنا إذاً سوى انتظار نهاية هذه التراجيكوميديا. اليوم على الأرجح، سنعرف اسم الطرف الذي «فاز» بـ«ثقافة العراق»!


مجلس أعلى للثقافة؟


في رسالته الداعية إلى إنقاذ وزارة الثقافة، دعا «اتحاد أدباء العراق» إلى «استكمال الخطوات الرامية إلى تشكيل مجلس أعلى للثقافة». أثارت هذه الدعوة ردود فعل متباينة في أوساط المثقفين العراقيين. فقد رأى السياسي العراقي نصير الجادرجي أنّ «الفئات السياسيّة الكبيرة لن تستجيب لهذه المطالب، لأنّها تريد أن تكون لها اليد الطولى في إيصال المعلومات والخطاب وصياغة الوعي».
من جهة ثانية، رأى الشاعر حميد قاسم أنّ رسالة الاتحاد جاءت متأخرة، «لأنها أعقبت مجهود عدد محدود من المثقفين العراقيين قبل شهر من الآن». ويرى قاسم أنّ الدعوة إلى تشكيل مجلس أعلى للثقافة تحمل معها مقوّمات هلاكه، «في الوضع الحالي، سيصبح مشابهاً لوزارة الثقافة، الفرق الوحيد أنّه لن يعدو كونه باباً للحصول على رحلات ومنح وامتيازات للمهيمنين عليه».