في أيّ واحدٍ من تلك المقاهي البيروتية التي يتجاوز عمرها الخمسين، ليس عليك أن تطيل النظر كثيراً. كأن أولئك الرجال الجالسين فيها رجل واحد. التفاصيل غير مفيدة، ولن تحدث فرقاً لامعاً. قد يكون أحدهم أفرط في صباغ شعره، أو نسي آخر أن يصبغ شارباً، محافظاً على شكله كما كان في 1975. ثيابهم متشابهة: مقصوصة من حقبة فائتة. يبدو الجالسون في المقهى، إن كان هذا المقهى هو «النصر» في البسطة، أو «صليبا» في بربور، عائلةً واحدة بديلة من عائلة كلّ واحدٍ منهم على حدة. أحياناً يبدون مقطوعين من عائلة نسوها في المنزل، أو مقطوعين من مقهى آخر أغلق أخيراً فانتقلوا إلى أقرب شبيه له. «معاقلهم» تسقط تباعاً في بيروت. هكذا يخسرون مواقعهم المسقوفة الأخيرة. في سباقهم مع الزمن هم الخاسرون دائماً. لا يربحون أكثر من وقت يمضي برتابة تسري في عروقهم. وفي مقاهيهم، لكلّ واحد منهم طاولته وكرسيه وشريكه في لعب الورق. لكل منهم صوته الذي يعرفه الآخرون أيضاً. هم أصحاب المكان. وتلك المقاهي الشعبية، الباقية من «زمن الطرابيش»، ليست لالتقاء العابرين كما هي المقاهي عادةً. إنها مساحات مغلقة مُصادرة بطيبة خاطر من مجموعة مسنّين. قلما يدخل ضيف جديد بلا «معرّفٍ» عنه من «أهل المقهى» الأصليين. الرجال في الداخل لا يحبون الصحبة الغريبة. لكنهم ودودون، وإن كانت أشكالهم تدل على أن أحوالهم لم تتغير منذ فترة طويلة.
من النكبة إلى «فتح» فالحرب وما بعدها

اختفى الرجال من مقهى دوغان. صار عمره 88 عاماً وزوّاره ليسوا أصغر منه بكثير. لقد هرم الملتقى الذي كان يزوره رئيس مجلس النواب الأسبق، كامل الأسعد، ونائب بيروت حينها عثمان الدنا. يبدو الاسم الأخير غير معروف، على عكس الأسعد. لكن، من لكنة الحاج صلاح، يبدو أن صاحبه كان «شهيراً» في بيروت آنذاك. الحاج صلاح، جار المقهى، جاء في العام 1949، بعد النكبة الفلسطينية بعام. ذاكرته مبرمجة على هذا الأساس رغم أنه ليس فلسطينياً. يتذكر: كان المقهى موجوداً لكنه كان مختلفاً طبعاً. لا يذكر أي إشكالات. فقط نارجيلة وورق شدة. يجزم أن «المكشوفة» بدعة جديدة. وهي لعبة من ألعاب القمار. يخالفه الرجل الأبيض ذو اللحية البيضاء الذي تعرفه عتمة المكان. يشرح: ألا ترى؟ الفيَش على الأرض، مع الزبالة. لا شك في أنها بقايا أعصاب المقامرين القدامى. هذه الطاولة الخضراء الكبيرة «متل اللي بتشوفها عالتلفزيون». وفعلاً ما زالت الطاولة وقد بهت لونها الأخضر. أكل الغبار قماشها. التهم أجزاء يسيرة منه.
داخل (ما تبقى من) المقهى في منطقة النويري اليوم، بقايا قصاصات علّقها الورثة: «الدين ممنوع ويللي ما معوش ما يلزموش ». وقصاصة أخرى قرب طاولة القمار الكبرى، خلف الستار، الذي يصرّ العامل على فضحه، «فيش ــ نقدي». هنا كانوا يقامرون بوقتهم وأرواحهم. الرجل صاحب اللحية البيضاء يقول إن الروّاد بعد الثمانينيات كانوا من «الشبيحة». ولذلك كانوا يلعبون طوال الليل ويخسر الجميع في النهاية. لم يربح أحد في تلك الألعاب. وعلى يمين الطاولة العريضة، هناك لافتة مكتوبة بخط اليد منذ السبعينيات: «قهوة 10 قروش ــ شاي فرنك». طبعاً لا يعني ذلك أن الليرة «كانت تحكي» كما يقول الإعلان التلفزيوني السمج. كانت كلفة الحياة مقنعة. وعلى مقربة من تلك اللافتة الصامدة، بقايا جهازي تلفزيون غير حديثين. هذا المقهى لا يشبه «ستاربكس» بشيء فهو لبناني 100%. ماذا كانت تعرض تلك الشاشات؟ يسكت الرجل ذو اللحية طويلاً. كان العرض (الذي يبدو أنه كان مخجلاً) يبدأ بعد التاسعة وتحرسه الميليشيات أيام الحرب، وبعد الحرب هناك حراس «وهميون» أيضاً. إذاً، الجميع «ملّح» المقهى، الذي مثّل فيه الراحلون، محمود مبسوط (فهمان) وفريال كريم مسرحياتهم. اللافت أن مؤسس المقهى مات عام 1970. استبق «الحاج خضر» الحرب الأهلية فمات قبل أن يقتحم المسلحون مقهاه ويحوّلوه إلى مساحة على صورة الحرب، لا على صورة المدينة الأولى. فقبل شهر تقريباً انهار صبر الورثة وباعوا المبنى.
واليوم، قرب الحائط الذي لم يُدهن منذ أيام الاستقلال، تسعى الصورة إلى التجانس. بقايا الفحم على الأرض وأرجل الكراسي المكسورة أيضاً، وثمة حديقة خلفية للمقهى لكنها كانت «ممنوعة» على «عامة الزوار» بعد السابعة مساءً، فهي تجاور طاولة القمار الرئيسية. وعلى الباب، هناك محوّل كهربائي قديم «ركّبه الحاج عام 1965». رحم الله الحاج خضر، لكن وفقاً لشهادة العامل، الذي رافقنا في المكان، فإن «المقهى يسرق الكهرباء من خط رأس النبع منذ 1965». وبعفوية بالغة، يقول العامل، «بتعرف يعني... براس النبع كانو مسيحيي قبل الحرب». لا شيء مثبتاً من هذا ديموغرافياً، لكن حضور التيار الكهربائي في تلك المنطقة خلال الستينيات جعل العامل يقتنع بفرضيته. يتذكر العامل الستيني أن «آخر الجباة» الذين كانوا «يطنّشون» عن خط رأس النبع كان «يقبض 100 دولار أميركي سنوياً». مبلغ زهيد بالنسبة إلى كمية الكهرباء التي يوفرها خط «الحي الثاني»، الذي يمكن الجزم اليوم، أنه لم يعد «مسيحياً» كما هي صورته في رأس العامل. وللمناسبة، كان «الرواد يأتون من رأس النبع». فقد كان المقهى «كلاس». وكان المشروب المفضل للجميع «عرق أبو سعدا». كانت «البطحة» منه معروفة أكثر من أسماء السياسيين اليوم وذلك منذ الستينيات. يتذكر الحاج صلاح شيئاً من الستينيات: «لم يكن المقهى محطة، كان النزلاء يمكثون كثيراً». تتدفق الحكايات إلى ذاكرته، فيروي أن المقهى لم يكن للعجزة، أو للعاطلين من العمل. على العكس تماماً، كان للرجال «القبضايات». يصعب رسم شكل منطقة النويري عام 1950 اليوم. هذا الازدحام موجع. فيما مضى كان قبضايات بيروت يعلنون قوتهم في المقاهي، على نقيض من «الزعران» الذين كانوا يفضلون المقاهي البحرية، لسلب الأجانب تحت وطأة السكاكين. لكن لم يكن الأمر سمة. كانت تحدث حالات وحسب. والمقهى كان يبدو مزدحماً لأن المدينة كانت خالية.
الازدحام في تزايد. ووفقاً لما يؤكده قريب المالك الأساسي، فإن عائلة كردية من آل رمّو اشترت العقار كله. المقهى الأثري والطبقات العليا وموقف السيارات. اشترت العائلة الجديدة الذاكرة والقصص التي ستهبط مع هبوط الأحجار المرهقة. بات الأمر وشيكاً: سينام العقار قريباً. لن يبقى واقفاً شاهداً على عمارة بيروت الأولى في القرن السابق. يستبعد القريب أن يرمم آل رمّو المبنى القديم «لكنها فرضية واردة». وبالنظر إلى المباني المحيطة، خصوصاً المبنى المواجه العملاق بالزجاج الداكن، لا تبدو الفرضية واردة أبداً. هنا كان مقر أساسي لحركة «فتح» في السبعينيات والثمانينيات وقد صار مصرفاً معروفاً. اختفى مسلحو «فتح». لم يعد توفيق الصفدي، أحد «الرجال المهمين» في منظمة التحرير الفلسطينية، مخيفاً. غادر الصفدي في الثمانينيات ولحق المبنى به في التسعينيات. أما المقهى فبقي زوّاره. من عرف منهم «فتح» وعايشها، ما زال يرتعد عند ذكرها. يخفض صوته كأنها تركت آذاناً في الشارع وكأن الميليشيات التي تقمصت دورها ستثأر لها. لكن ليس هناك ثأر ولا من يثأرون. غادر الباقون بعد موت المقهى أخيراً. استقر رواده في الشارع المحاذي، خلف الكنيسة.
إلى مقهى صليبا در.

أيام «أبو ساكو» وشفيق الوزان

المارّون قرب مقهى صليبا ليسوا أكثر جرأة مِن أهلهِ. الروتين الجماعي المنعكس عبر الزجاج الأمامي يخيف الجميع. وكأن ثمة اتفاقاً غير معلن بين الفريقين، على عدم تعرض أحدهما للآخر. في الداخل الكراسي ما زالت في مكانها منذ أعوام، وطريقة جالسيها تدل على أنهم مستعدّون لقضاء أيامٍ بلا تغيير واحد في مكانهم أو حركاتهم. سكان المنطقة لا يرحمون مدمني التنباك وورق اللعب. جزء كبير منهم يطلق على مقهى صليبا لقب «دار العجزة». ذلك رغم أن المقهى معروف في الأحياء المحاذية أكثر من الكنيسة التي تبدو شكلياً المعلم الأم. يمكنك أن تسأل طاعناً في السن في بربور أو كورنيش المزرعة أو المصيطبة عن مقهى صليبا وسيدلك فوراً على الأرجح، لكن، من الصعب جداً أن يتذكر الكنيسة. «قهوة صليبا» ليست عالماً تحت الأرض. لا، أبداً. المقهى على الرصيف لكن لا أحد يطلّ برأسه. وهناك عابرون يروحون ويجيئون وينظرون إلى الداخل بطريقة يصعب وصفها. المقهيان متشابهان، دوغان وصليبا. لكن الأول مبعثر على الطريق والثاني متحصن جيداً خلف الكنيسة والبورة القديمة. اللافت الوحيد أن مقهى صليبا يمكن أن يجمع في رحابه، حتى اليوم، مسلمين ومسيحيين ودروزاً، إلى طاولة واحدة، ويحدث ذلك يومياً، على ذمة الزبائن. أما على ذمة الجيران فـ«الزبائن يموتون على الطاولات أحياناً». تتوقف قلوبهم في ذلك السجن الوجودي الذي وضعوا أنفسهم فيه.
وقبل المقهى، في الخمسينيات، كانت استراحة «معمل البلاط ». الفارق كبير بين البلاط الصلف وقعاً، وبين الأغصان الكثيرة التي تظلل المقهى اليوم. وكان صاحبها ميشال صليبا، قد افتتحه بعدما لاحظ حاجة المنطقة إلى مقهى «تجديدي». وفعلاً، هذا المقهى، القابع في زاوية خفية، كان «تجديدياً» في بداياته. وعلى ذمه عصام عثمان، أحد الزوار اليوميين، منذ زمن طويل، فإن «سكان المزرعة هم روّاد المقهى الأصليون». ويمكن أن تعطي هذه الشهادات لمحةً عن تركيبة بيروت الديموغرافية قبل الحرب. والآن، هناك الورثة الذين حافظوا على المقهى في مكانه الحالي بعدما «استعاد وقف الروم الأورثوذكس البورة». الأرمن لهم حصة في المزيج الطوائفي اللبناني أيضاً. منذ 45 عاماً و«أبو ساكو » يأخذ الباص (والترامواي سابقاً)، من سن الفيل إلى بربور، ليلعب الطاولة مع أصدقائه الشباب. يحب المكان لأنه يشبهه: قديم وتجاعيده كثيرة. وعلى ذمة عثمان، فإن الوزير الراحل هنري فرعون وشقيقه ميشال فرعون «ملاك سبق الخيل» أخذوا من المقهى «معقلاً» لهم. جلبت لهم الخيل، الشعبية، إذ كانت مصدر «وجاهة» في ذلك الحين، لم تضاهِها إلا وجاهة النائب الراحل نسيم مجدلاني، الذي كان من أعيان المنطقة. صحيح أن نجله عاطف هو أحد أبناء المنطقة، لكن وفقاً لكبار السن، فإن عاطف «لا يشبه والده في شيء». حتى إنهم يجزمون أن «المجدلاني الجديد» لو سار وحيداً في شوارع بربور، فلن يعرفه أحد. يقولون إنه «لا يعرف بيروت ولا تاريخها». برأي المسنّين البسطاء في المقهى، ممثل بيروت البرلماني اليوم «تعول بنوكة». يذكرون حين كان والده يسير إلى المقهى ويصافح الجميع، بينما يختفي هو لأسباب لا تقنعهم. بعضهم يذهب أكثر من ذلك، مستفيضاً في الشرح: «الروم غادروا إلى منطقة الحدث». يخالفه مسنّ آخر، يذكر أن رئيس الحكومة الأسبق شفيق الوزان كان من روّاد المقهى وكان «لاعب طاولة». لكن الشعبية في المقهى تبقى للفرعونين، هنري وميشال، أكثر من غيرهما. لا يمكنك أن تقول مقهى صليبا من دون الحديث عن «سبق الخيل». وكما ورق الشدة، الجميع «يلعب في السبق». يوم الأحد يصفر المقهى.

السبق «الفرنساوي» أولاً

في المقاهي الأخرى، السبق 24| 24 . في «مقهى النصر» بالبسطة مثلاً، «السبق فرنساوي» منقول عبر الأقمار الاصطناعية. مراقب ميدان سبق الخيل الرسمي، والرجال يبدون كأنهم «نسخة طبق الأصل» عن زملائهم في «الدوغان» و«صليبا». الحصان يركض في فرنسا و«السبقجية» يصفقون في البسطة. يحملون الجرائد ويدققون في أوزان الخيول وأسماء «الجوكية» رغم أنهم أميركيون وألمان وفرنسيون.
صاحب المقهى، رياض الخالدي، يؤكد أن «الفرنساوي» هو السبق «الحقيقي» حالياً. أوضاع «السبق اللبناني في تدهور». الرجل يملك مقهىً كان في الأساس لرئيس الوزراء الأسبق سامي الصلح. هذا المقهى كان في بدايات القرن السابق كما «سوليدير» في القرن الحالي. طباق يوحي بأن جمع أصوات الناس في صناديق الاقتراع يقتضي جمعهم على كراس متلاصقة. وكي يرفعوا قبضاتهم للزعيم صباحاً عليهم أن يرفعوها للعب الشدة في البسطة، أو لتنفيخ الأرجيلة في «الداون تاون» مساءً. اختلف شكل المدينة كثيراً وأفرغت هويتها على قوارع الطرق، وصبت في البحر ثم بلط البحر. وماتت المقاهي، إلا أن هناك رواداً صامدين ما زالوا ينازعون. ورغم كبرهم في السن، تقول «الترجيحات» إن المقاهي ستموت قبلهم. فقد ظن آل الصلح أن «البسطة دائمة لهم»، كما يتذكر عجوز ترفض السيجارة الذوبان في فمه المثقوب بأسنان ملونة ومكسرة. ثم جاء حسن الشيخ، وبعده أبو سليمان، قبل أن يشتري الخالدي المقهى في 1970. وأخيراً جاءت الحرب ومهدت للقضاء على كلّ شيء.



مقهى «القزاز» الكوزموبوليتاني

قبل عام تقريباً، أغلق «مقهى القزاز» أبوابه. يتذكر عماد عيتاني، أحد رواد «مقهى صليبا» في بربور، أن «القزاز» كان «ألمع وأفضل المقاهي». الثمانيني لم يتعب من التبغ بعد. في الخمسينيات، كانت الطريق أمام «مقهى القزاز» خالية، ما أتاح رؤية السماء، والسهر تحت ذلك السقف العالي. يذكر عيتاني السقف الذي صمد 90 عاماً جيداً، رغم «غزوات» الرؤساء صائب سلام وبيار الجميل وكميل شمعون، الذين كانوا سياسيين «لكنهم كانوا يعرفون كيف يدارون الشارع». كان المقهى، حسب ذاكرة عيتاني، يشبه «المطاعم الصغيرة في باريس». مساحة واسعة في الداخل مع بار في نهاية الغرفة. الطاولات مستطيلة أو مستديرة لكن أحجامها متواضعة، محاطة بكراسٍ مصنوعة من القش والخيزران اللبناني التقليدي. أما البلاط فكان إيطالياً. في المحصلة كان المقهى كوزموبوليتانياً على صورة بيروت آنذاك. وبالنسبة إلى الشباب الذين لا يعرفون صورة مدينتهم القديمة، على الأرجح، أنهم سيشاركون عيتاني، والعجزة الآخرين، يوماً ما، كرههم الشديد لذلك الرجل الذي اشترى المبنى عام 1997، مقرراً وقف عقود الاستثمار القديمة. سيتضامنون مع مالكة المقهى، التي صمدت أمام القضاء 12 عاماً، بل لأجل ذاكرتهم، التي سيسحقها مبنى عملاق، على مقربة من البحر الذي «بلطته سوليدير». مقهى «القزاز» لم يكن مجموعة من الحجارة الملونة والبلاط التوسكاني فحسب. والقصة ليست قصة ذكريات أو كلام معسول قيل كثيراً.. فالرجل الثمانيني، ذرف دمعة عندما تذكر مقهى القزاز. تشبث بكرسيه كأنه يتشبث بذاكرته. فهو يعلم أن القرار متخذ بإزالة معالم المدينة الأخرى.




محمد عبد الوهاب X فريد الأطرش

في «مقهى صليبا» كانوا «سميعة طرب». فريد، أحد لاعبي «البندورة» المهرة، الذي كان «ميليشيوياً» في منتصف السبعينيات، وأصيب في يده، ما زال يذكر جيداً أن النقاشات التي كانت تدور حينها، كانت فنية أكثر منها سياسية، رغم الأوضاع الأمنية. المقاتل السابق مغرم بصاحب اسمه: «فريد الأطرش». والأخير، بالنسبة إليه «أهم من رفيق الحريري ونبيه بري وكل هالبوطة». وعدوّه الحقيقي ليس 8 ولا 14 آذار. الحياة خارج تلك الجدران لا تعنيه. لا ينتخب ولا يعرف في السياسة منذ أصيب في الحرب. كان بحاجةٍ إلى بتر أصابعه ليكتشف أن «السياسة هنا مجزرة». أعداؤه عم «جماعة عبد الوهاب». برأيه كان الموسيقار المصري متكبراً. قالها بصوت مرتفع، فأثار حفيظة رجلين على طاولة بعيدة. تركا ورق الشدة وجلسا إلى طاولة فريد. حاولا أن يحدثاه في الموسيقى لكن الرجل متمسك بآرائه. شيئان لا يتخلى عنهما: «النارجيلة وفريد الأطرش». حتى أم كلثوم لا يحبها. وعلى عكس رواد المقهى الآخرين، فإن أصعب أيام حياته في المقهى كانت «عندما يلزموننا سماع أم كلثوم». يشتد حنينه إلى موسيقاره: «ما تقول عبد الوهاب. أوعك. فريد كان كريم وحنون». ومن دون مناسبة، راح يبكي.