أن تدمع عيون المغتربين كلما سمعوا اسم لبنان، مسألة طبيعية دخلت ضمن أدبيات الاغتراب، وأن يسيل لعابهم كلما اجتمعت باقة البقدونس بالبرغل والبندورة والبصل الأخضر لتشكّل صحن تبولة، أمر بدهي بات من لوازم الاغتراب وعدّته، وأن يجتاحهم حنين لا يُقهر حين يؤتى على ذكر الكبة النية، لم يعد مشهداً مؤثّراً. لكن أن يحدث هذا كله وأكثر مع ليلي، الفتاة الإثيوبية التي عاشت في لبنان 5 أعوام قبل أن تنتقل إلى دبي، فأمر مثير للدهشة في بلد طغت عليه السمعة السيئة في معاملة الخادمات الأجنبيات اللواتي لا تحمل معظمهن سوى ذكريات سوداء عن إقامتهنّ في أرجائه.
تتحدّث ليلي عن لبنان بلغة المغتربين وتتقمّص شخصياتهم من دون افتعال أو حتى إدراك أنها بحديثها هذا تثير استغراب من يسمعها، لا لأنها تعشق لبنان فحسب بل لأنها تتحدث كأبنائه المهاجرين، فتحبّ ما يحبّون وتشتاق الى ما يشتاقون إليه وتنفعل كما ينفعلون. أكثر من ذلك، تتحدث العربية «المكسرة» كما يتحدثونها، مطعّمة بعبارات فرنسية تعلمتها في منزل مستخدميها مع اكتساب اللهجة التي تدلّ إلى المنطقة التي ينتمون إليها. المفارقة أن ليلي لا تزال تذكر رقم الهاتف الخلوي للسيدة التي عملت لديها، لكن باللغة الفرنسية تماماً كما تلقّنته.
«حلو كثير لبنان، كثير حلو، وأحلى شي طقسو.»، إنها اللازمة التي تردّدها من دون كلل أو ملل، وترفقها بتنهيدة طويلة تنمّ عن حسرة المشتاق الذي لا يحلم سوى بالعودة إلى بلده. حلم تحول دون تحقيقه معوقات عدة يُعدّ الدخل المادي أبرزها. يهاجر الشباب اللبناني بهدف الحصول على وظيفة لائقة ودخل يتيح له العيش وفق متطلبات العصر. وليلي هاجرت من إثيوبيا بحثاً عن عمل يساعدها على إعالة عائلتها، لكنها لا تدرج مغادرة بلدها الأم في خانة الهجرة ولا يغمرها حنين تلتمع له عيناها حين تأتي على ذكره. فهذه المشاعر تحتفظ بها للبنان الذي تركته مكرهة تماماً كما فعل أبناؤه. «حلو لبنان، بس ما في مصاري كثير مثل دبي». لهذه الأسباب حزمت ليلي أمتعتها واتجهت الى إمارة دبي بعدما أقنعتها صديقتها بأن في إمكانها أن تجني هناك أضعاف المبلغ الذي تجنيه في لبنان من خلال العمل الحر وفق نظام الساعات في عدد من البيوت، مقابل 25 درهماً للساعة الواحدة، أي ما يعادل 7 دولارات. «لبنان.. أتمنى لو أعود إليه ثانية، لكن ما في مصاري، 150 دولاراً لا تكفي، كثير قليل». في دبيّ تجني ليلي هذا المبلغ خلال ثلاثة أيام مقابل 8 ساعات عمل في اليوم، وغالباً ما تعمل ما يزيد على عشر ساعات. ورغم أن ليلي تدفع بدل الإقامة وكلفة العيش والسكن الذي تتشارك فيه مع عاملات إثيوبيات، تؤكّد أن المبلغ الذي توفّره شهريا أفضل بكثير ممّا كانت تجنيه في لبنان، وإلّا فما الذي يجبرها على البقاء في «الغربة»!
اسمها ليس ليلي بل فاسيكا، لكن لا أحد يعرفها باسمها الحقيقي الذي لم يعد موجوداً سوى على جواز سفرها. حتى هي نسيت هذا الاسم وباتت تعرّف عن نفسها باسم ليلي الذي أطلقته عليها عائلة سورية عملت لديها في منطقة الجميرة في إمارة دبي حيث تقيم حالياً، فاعتمدته منذ ذلك الحين.
في لبنان الذي وصلت إليه في سن الخامسة عشرة، كان اسمها فاسيكا. ولمّا كانت سنّها لا تسمح لها بالالتحاق بالعمل، عمدت إلى تزوير أوراقها الثبوتية في إثيوبيا لتكبر ثلاثة أعوام دفعة واحدة، لكن على الورق فقط، إذ إن ليلي التي وصلت الى لبنان قبل نحو عقد، كانت لا تزال في سن المراهقة، ولا تحسن القيام بأي من الأعمال المنزلية التي ستكون مصدر رزق لها ولعائلتها في إثيوبيا. غير أن حسن حظها قادها إلى عائلة أحبّتها كثيراً وعدّتها فرداً منها كما تقول. «علّمتني ماما، (أي المستخدِمة) كل شيء من الكنس الى المسح والطبخ واستخدام الأدوات الكهربائية. لم أكن أعرف شيئاً على الإطلاق، كنت مجرد طفلة». هكذا ستطلق ليلي لفظة «ماما» على كل المستخدِمات اللواتي ستتنقل للعمل لديهن.
أحبّت ليلي لبنان بلغة أهله، ولولا لون بشرتها الداكن لظنّ محدّثها أنها لبنانية الأصل كما الهوى. تعشق التبّولة التي تُعدّها أحياناً في دبي، لكن الطعمة مختلفة، كأنها طبق آخر. فالخضر في الإمارات «بلا طعم ولا رائحة، أما في لبنان فنكهة أخرى». تقول ذلك، وتغمض عينيها كأنها بذلك تستعيد ذاك الطعم اللذيذ الذي تفتقده بشدّة. «كل شيء له طعم مختلف في لبنان، تشرب المياه من النبع، تقطف الخضر من الأرض... لبنان غير، غير».
لا تقتصر ذاكرة ليلي على المطبخ اللبناني، بل تتعدّاها الى مناطق أمضت فيها أوقاتاً جميلة، منها عمشيت حيث تقطن شقيقة مُستخدِمتها، ومار شربل وحريصا حيث كانت تشارك في الطقوس الدينية التي تمارسها العائلة، وخصوصاً أن ليلي مؤمنة وملتزمة دينياً وتنصح من يواجه مشكلة صحية بأن ينذر نذراً لمار شربل لأنه لا بد من أن يستجيب لصلواته. ولا تقف معرفة ليلي عند هذا الحد، بل تتعدّاه لتشمل القديسة رفقا والحرديني ودير كفيفان وسواها من الأمكنة والمقامات الدينية. اصبحت ليلي، خلال إقامتها في لبنان التي امتدّت خمسة أعوام، جزءاً من مجتمعه، لا تتابع كل قضاياه الاجتماعية والسياسية والرياضية فحسب، بل تتحزّب مع فريق ضد
آخر.
حين خسر مستخدِمها، وهو طبيب أطفال، في الانتخابات البلدية، بكت. «هو طبيب معروف جداً، شقيقه صاحب بنك». تذكر اسم شقيقه وتحاول أن تشرح من يكون في دلالة إضافية على انخراطها في تفاصيل الحياة العامة في لبنان. كانت ليلي أيضاً تتابع لعبة كرة السلة في عزّ تألقها وكانت تشجّع نادي الحكمة ويعجبها أداء إيلي مشنتف.
اليوم، تستعدّ ليلي للعودة إلى إثيوبيا. قرّرت أن تتقاعد باكراً وأرسلت في طلب شقيقتها إلى دبي حيث بدأت تدريبها لتتابع من بعدها توفير رزق العائلة. تعود ليلي إلى بلدها الأم، لكنها تعد نفسها بأن تأتي يوماً لزيارة لبنان، سائحةً هذه المرة.