كيف تحمي القوانين المواطن العاجز عن الحصول على نسخة منها، إلا من خلال شراء الكتب والمراجع القانونية أو استشارة الخبراء؟ ما فائدة التعاميم التي يصدرها الوزراء ما دامت غير منشورة؟ كيف يمكن للنائب مراقبة عمل السلطة التنفيذية، علماً أنها لا تنشر تقاريرها وموازناتها ومصاريفها وسياساتها؟ كيف يمكن للمواطن أن يباشر في معاملة إدارية وهو يجهل عدد المستندات المطلوبة ونوعها ومدة إنجازها؟ أسئلة يطرحها المدير العام لـ«الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية ــ لا فساد» ربيع الشاعر، مبرّراً من خلالها أهمية وجود قانون يكفل حق المواطن في الحصول على المعلومات، وإصرار الجمعية على العمل على تحقيقه.
لا تنتهي الأسئلة عند هذا الحد. فالأمثلة التي يمكن أن تُحرج السلطات كثيرة، وخصوصاً أن المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، كرستا حقّ كلّ إنسان في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها. فيما كفلت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد هذا الحق في المادتين 10 تحت عنوان «إبلاغ الناس»، و13 تحت عنوان مشاركة المجتمع. وقد نصّت مقدمة الدستور الفقرة (ب) على التزام لبنان بمواثيق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
هكذا يبدو لبنان ملتزماً مع وقف التنفيذ. ولذلك ما يبرّره بحسب النائب روبير غانم. يقول إن الاتفاقيات الدولية عبارة عن «كادر لكن لدينا خصوصية يجب مراعاتها». هذا النائب متّهم من قبل جمعيات المجتمع المدني بالحجر على اقتراح القانون مدة ثلاث سنوات (سُجّل في قلم مجلس النواب عام 2009)، إلى أن عاد إلى التداول مجدّداً بسبب ضغط هذه الجمعيات، وربما قرب الانتخابات. فقد أدرج غانم اقتراح القانون على جدول أعمال لجنة الإدارة والعدل وتم تشكيل لجنة فرعية ضمّت النواب نوار الساحلي وسيرج طورسركيسيان وغسان مخيبر وميشال الحلو لدراسته.
بدأت المشاورات من دون أن يعني ذلك أنه سيبصر النور قريباً. ويؤكد غانم أنه «لن يصادق عليه قبل الانتخابات بسبب وجود نوع من المقاطعة للمجلس، إضافة إلى عدم انتهاء اللجنة من دراسة أمور أساسية مثل تملّك الأجانب، عدا الوقت الذي تحتاج إليه اللجنة المصغّرة لأننا لا نريد أن نسلقه، وخصوصاً أن هناك بعض الأمور التي تمسّ بحرية الإنسان وخصوصيته».
ليس مجلس النواب وحده من أغفل القانون. المجتمع المدني أيضاً غفل عنه، قبل أن يعاود تحرّكه مؤخراً. يوضح الشاعر أن الجمعية بدأت بحملة مدافعة عن اقتراح القانون من خلال مسح أجرته بالتعاون مع مركز قرطاج للبحوث والمعلومات في آب الماضي، تَرافق مع تدريب صحافيين على هذا الحق. ولاحظ الماسحون أن الموضوع كان صعباً للغاية وغير مألوف، إذ تساءل الكثير من المواطنين عن سبب إعطاء الأولوية له، وخصوصاً أنه لا يشكل مصدر قلق رئيسي للشعب. ولفتوا إلى أنه نتجت من إجراء المسح حاجة إلى تثقيف عامة الناس حول الوصول إلى المعلومات.
بدت إذاً عبارة الحق في الوصول إلى المعلومات غير مألوفة لدى عدد كبير من الناس. لكن بعد الشرح، كان لهم رأيهم. ولدى استطلاع آراء المهنيين، قال 51% إنهم لا يتمعتون بالحق في الوصول إلى المعلومات. وأكد 72% من المهنيين أنه من الصعب جداً الوصول إلى المعلومات، وذكر 81% منهم الواسطة والدعم السياسي كأفضل طريقتين للوصول إليها.
أما المسح الذي استهدف الرأي العام، وغالبيتهم من الموظفين في القطاع الخاص، فرأى 81.5% منهم أن اللبنانيين لا يتمتعون بحق الوصول إلى المعلومات. بقي استطلاع آراء عشرة برلمانيين، الذين لفت 30% منهم إلى تمتع اللبنانيين بهذا الحق في مقابل 70.
ما لاحظه الماسحون يعكس غياب الثقافة. هذا ما يلفت إليه المحامي في جمعية «مهارات» طوني مخايل. يشير الأخير إلى أنه خلال تدريبه الصحافيين على الاستفادة من القانون الحالي في الحصول على المعلومات، لاحظ أنهم لم يبدوا اهتماماً كثيراً بهذا الحق، وكان في أولوياتهم تأمين الضمان الاجتماعي وتفعيل العمل النقابي. كما أنه للصحافيين طريقتهم في الوصول إلى المعلومات القائمة على «العلاقات الشخصية».
ويرى مخايل أن الصحافي لن يستفيد كثيراً من هذا القانون وخصوصاً أن عمله قائم على السرعة. فهو لا يستطيع انتظار 15 يوماً ليؤمن له الموظف طلبه. «يصلح الأمر للصحافة الاستقصائية والمواطن. لكن حتى الأخير، لن يتحمس كثيراً لممارسة هذا الحق بعد قوننته، في ظل غياب نظام قضائي مستقل. فالمواطن سيفتقد إلى من يحاسب». ويقارن مخايل بين لبنان وبعض الدول العربية، قائلاً إن قانون المطبوعات اللبناني لم يمنح الصحافي هذا الحق، فيما نصّ القانون المصري على حق الصحافي في تلقي الإجابة على ما يستفسر عنه من معلومات.
ويترافق غياب الثقافة مع القدرة على الالتفاف على القانون حتى في حال إقراره. أولاً، هناك الاستثناءات التي جاءت فضفاضة في اقتراح القانون، بحسب مخايل، وتضمنت أسرار الدفاع الوطني والأمن القومي والأمن العام. رفض تسليم وثيقة قد تلحق ضرراً بالعلاقات بين الدول أو المنظمات الدولية، الكشف عن الجرائم أو الوقاية منها، إيقاف المتهمين ومحاكمتهم، حسن سير المرفق القضائي واحترام مبادئ العدل والإنصاف ونزاهة إجراءات إسناد الصفقات العمومية، وإجراءات المداولة وتبادل الآراء ووجهات النظر أو الفحص أو التجربة أو المصالح التجارية والمالية المشروعة للهيكل العمومي المعني.
ولا تنطبق هذه الاستثناءات على الوثائق التي أصبحت جزءاً من الملك العام مع مراعاة التشريع الجاري به العمل وخصوصاً القانون المتعلق بالأرشيف، والوثائق الواجب نشرها للكشف عن الانتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان أو جرائم الحرب أو البحث عنها أو تتبعها، وعند وجوب تغليب المصلحة العامة على المصلحة المزمع حمايتها لوجود تهديد خطير للصحة أو السلامة أو المحيط أو جراء خطر حدوث فعل إجرامي أو ارتشاء أو سوء تصرف في القطاع العمومي.
وإذ يفترض أن يؤدي القانون الجديد إلى الشفافية باعتبار أن كل قرار يجب أن يكون معلّلاً، يمكن للمعنيين إخفاء المستندات التي لا يريدون اظهارها للناس. يضاف إلى ذلك وجود قوانين تتعارض مع اقتراح القانون. ويشدّد مخايل على ضرورة إنشاء مركز وطني للمعلومات (على غرار قانون الحق في الوصول إلى المعلومات اليمني) لتصنيف المعلومات وتفعيل عمل الادارات ومراقبتها.
ليس اقتراح القانون موجهاً ضد أحد. بل يسعى إلى تلميع المرآة لرؤية الوجوه على حقيقتها، وتخفيف العناء. وإلى حين اقراره، يمكن أن يتعرف إليه المواطنون أكثر، علهم يعشقونه.