يفيض نهر بيروت سموماً. على ضفافه، يقع شارع «الخضر» في منطقة الكرنتينا، بالقرب من معمل «سوكومي» للنفايات، وإلى جانب هنغارات معمل الحديد. هنا، في هذا الحي المحاصر بالتلوّث، يعيش أناسٌ تُطاردهم الأمراض، كما الذباب والحشرات. يكاد كل بيت لا يخلو من الربو، الحساسية... والسرطان. يصعب على زائر المكان التجوّل من دون كمامة تقيه رائحة «الوباء» التي تعبق بالأجواء.
هنا، لا يبدو أن مفهوم التنظيم المديني تم تحديده. يشكل الحي نموذجاً لتنظيم «اللاتنظيم». حي سكني مزروع بمراكز ومؤسسات صناعية بشكل عبثي، ولا تعد هذه مشكلة الناس الوحيدة، فهؤلاء، الذين ما لبثوا أن «استراحوا» من «مطحنة العظام» والمسلخ «المؤقت» اللذين جاورهما لأكثر من عشرين عاماً، مستبشرون خيراً في تقليص مسببات الروائح الكريهة وبالتالي التلوّث، حتى استفاقوا ذات صباح على أكوام من نفايات تكدّست على ضفاف النهر المواجه لشرفاتهم، وأكوام أخرى استقرّت في عقار مجاور لبيوتهم، ليزداد بذلك خطر المرض المحدق بهم.
الأهالي الذين اعتادوا حرمان السهر على «البلكون» نتيجة الروائح الكريهة، التي تبثّها «مضخّات سوكلين» كما يسمونها (معمل سوكومي)، نسوا منذ زمن، ما يعنيه نسيم الصباحات، بعدما أزال غبار هنغارات الحديد مفهوم الهواء النقي من قاموسهم، باتوا يتوجسون المطر ويتوسلون الصحو خوفاً من عاصفة تنقل النفايات ــ جارتهم ــ الى «أحضانهم».
«تخيلي اللي صار بسد البوشرية بس على كبير»، تقول أم سامر (60 عاماً) خلال حديثها عن الكارثة المرتقبة في حال بقاء الوضع على ما هو عليه. يومياً، تسعل السيدة الستينية إلى حدّ التقيؤ من الرائحة «المتعددة المصدر»، تقول ساخرةً: «يحار الواحد منا في تحديد مصدر الرائحة، هي مزيج من سوكلين والنفايات المكدسة على النهر وتلك المرصوصة في العقار خلفنا»، وتشير بيدها المتعبة الى مكان قريب من منزلها، إلا أنها سرعان ما تستطرد: «عندما توفيت حفيدتي الرضيعة بسبب اختناقها من الرائحة منذ ست سنوات، لم يكن هناك أزمة نفايات، منطقة فيها سوكلين تكون موبوءة من يوم يومها؟»
فريال (45 عاماً) تقرّ بأن الوضع مأزوم منذ زمن، إلا أن الأزمة الحالية ضاعفت منسوب الخطر والإهانة. «ليكي الدبان (ذباب) بالبيت من الزبالة، بستحي قول لحدا يزورني». للسيدة ثلاثة أولاد يعانون من حساسية في الصدر و»بيعملوا كريزا من وقت للتاني». تروي فريال يومياتها في «الهروب من الريحة»، تعمد الى إغلاق جميع النوافذ وتشغيل المراوح «ولو كنا بعز الشتا».
«نحنا منحط الكنزة ع منخارنا ومنركض ع المطبخ»، تقول حفيدة أبو زاهر (72 عاماً)، مقاطعة جدها الجالس على الشرفة. هل تستطيع احتمال الرائحة؟ تأقلمت، يقول الجد ضاحكاً، ويستطرد «بس تزيد، بحمل حالي وبفوت؟».
يفكّر هؤلاء يومياً بتغيير أماكن سكنهم، «إلا أنه لا بديل»، معظمهم ملاكون ورثوا البيوت عن آبائهم ولا يملكون القدرة المالية للاستئجار، وخصوصاً أنه يتعذّر عليهم بيعها «ما حدا بيشتري بهيك موقع». يقول أبو زاهر: «منذ عشرين عاماً ونحن نسمع بأن هناك مشروعاً إنمائياً يقضي بإعادة تأهيل المنطقة، على أيامي كان اسمه الخط العربي». فعلياً، معظم السكان يسمعون بأن هناك مشروعاً يُخطط للمنطقة، لكنهم لا يعوّلون على مشروع «ينام منذ عشرين عاماً»، إلا أن مشكلتهم لا تكمن في غياب المشاريع «الإنمائية»، بل في تغيّب «الدولة» عنهم وإمعانها في تهميشهم.
اللافت أن اهالي المنطقة محرومون من إمكانية ترميم بيوتهم أو حصولهم على رخص لبناء أو تعديل على أملاكهم، «أقصى ما نستطيع تحسينه هو طلاء المنزل»، يقول حسين الحاج، أحد القاطنين في الحي. لذلك من يزور الحي يلاحظ أن معظم البيوت «هرِمة» ومُتعبة.
يعتقد البعض أنه أريد لمنطقتهم أن تكون «موبوءة»، «ليطفّشوا الناس ويستولوا على المنطقة»، وفق ما يقول محمد (43 عاماً) الذي يسأل «لماذا نحن ممنوعون من تحسين بيوتنا؟ ولماذا اختاروا هذه المنطقة ليكدسوا النفايات فيها؟ يريدون اقتلاعنا من هنا لتصبح ممنوعة علينا، شأنها شأن بقية بيروت». ويضيف: «منطقتنا أحلى منطقة بس لو بخلّونا نظبطها، 5 دقايق منصير بالدورة، و5 دقايق بوسط البلد». كلام محمد يتوافق وشهادة أبو رياض (74 عاماً) الذي ولد في المنطقة «اللي من زمان هاجريتها الدولة». يقول إن هذا «هو المدخل الشمالي الشرقي لبيروت، أيام الحريري دفعولنا 225 دولاراً بالمتر حتى نفلّ، وما قبلنا، هيدي الأرض حقها دهب، هلق يريدون تطفيشنا منها بالزبالة!».

يعتقد البعض أنه
أريد لمنطقتهم أن تكون «موبوءة»


عندما رفض عدد من أعضاء المجلس البلدي لبيروت إعادة فتح المسلخ المؤقت لبيروت، قالوا إن هناك مخططاً توجيهياً يقضي بإعادة تأهيل المنطقة «بشكل لا يسمح بأن تحتضن مسلخاً»، تقول مصادر بلدية بيروت إن المخطط التوجيهي للمنطقة لا يزال «قيد الدرس». وإلى ذلك الحين، ستبقى أعداد المتوفين تزداد بانتظار تنظيم مدني لن يستقيم إلا بطرد فقراء المنطقة، ناسها، لإحلال الأغنياء مكانهم، كما عوّدتنا التجارب السابقة.

هل تتحول الكرنتينا الى مطمر؟


عند بداية «اندلاع» أزمة النفايات قبل أكثر من ثلاثة أشهر، أعلن محافظ مدينة بيروت القاضي زياد شبيب عن عقار في منطقة الكرنتينا، لوضع نفايات بيروت الإدارية فيه الى حين انتهاء الأزمة. حينها لفت الى أن العقار لن يكون مكباً عشوائياً، بل «مكاناً لنفايات موضبة من قبل شركة سوكلين، تمهيداً لطمرها أو معالجتها». من يزور الكرنتينا الآن يُدرك أن النفايات المغطاة بشوادر زرقاء والمغلّف بعضها بأكياس بيضاء لم تُعف المكان من صفة «المكب العشوائي». جبل من النفايات المتناثرة والتي تفوح منها رائحة خانقة. إلا أن اللافت كان وجود شاحنات محمّلة بالأتربة تعمد الى تغطية هذه النفايات المكدّسة. مصادر بلدية بيروت تقول إنه «يجري استخدام الأتربة لعزل طبقات النفايات لتخفيف حدة التلّوث»، وماذا عن التوضيب «الموعود»، تقول المصادر: علينا أن نعترف بأن «الأمور لم تسر بطريقة مثالية». يقول الخبير البيئي ناجي قديح في حديث إلى «الأخبار»، إن «إضافة الأتربة على النفايات لا تلغي خطر تكدسها العشوائي، وخصوصاً إذا كان تموضعها مؤقتاً»، لافتاً الى أن هذه الخطوة ليست إلا نموذجاً عن الحلول العشوائية في هذا الملف.