في يده هاتف، يلتقط من خلاله الصور لمسيرة «طلعت ريحتكم» الأخيرة (الخميس الماضي). تعابير وجهه العشريني تعكس حماسته. ادعوه إلى الانضمام من البسطة، يتفحص نفسه بارتباك، معلّلاً أنه خرج من عمله للتو ولا يرتدي لباساً يليق بالمناسبة.
نسأل شابة أخرى متكئة على سيارة جانب طريق كركول الدروز، ترد: «بعدني بالشغل، يا ريت!»، وهي إجابةٌ تكرّرت على ألسنة العديد من «المشاهدين» للمسيرة نفسها، لكن عدم استعداد «الواقفين على البلكون» للنزول إلى الشارع لا يمكن تفسيره بظروف العمل فحسب، ولا سيما اذا كانت المسيرة في يوم عطلة (امس الاحد)، فالعديد من سكان سد البوشرية وبرج حمود عبّروا عن تأييدهم للحراك، بالتصفيق والتلويح بالأعلام اللبنانية، لكن من شرفاتهم لا في الشارع. تبدو انطباعات هؤلاء وردات أفعالهم على التحركات أكثر أهمية من المتظاهرين أنفسهم، إذ تعكس شرخاً مرئياً بين فئات الناشطين و»المتطفلين». تعذّر مشاركة الكثيرين منهم قد يتعلق بهشاشة ظروف عملهم أو أعمالهم الصغيرة، لكنه يعود أيضاً إلى خطاب وتكتيكات عمل العديد من المجموعات التي تعمد، على نحو صريح أو مبطّن، إلى إقصاء الكثير من الفئات، ولا سيما الأكثر فقراً وهشاشةً.

جعل شاب البسطة
يشعر بأنه ليس
بمقام المتظاهرين ليس بالبداية الموفقة

الشاب الذي تردّد في الانضمام «لأنه مش لابس منيح» يعي تماماً أنه لا يشبه المتظاهرين أمامه، لا يتجانس معهم، لا في المظهر ولا في الأولويات. لا شكّ أن تركيبة معظم المجموعات نفسها تعكس ذلك التفاوت. فمعظم الأعضاء المؤثرين في المجموعات، أي الذين يفرضون الأولويات وشكل التحركات، هم متفرغون او شبه متفرغين للحراك. يملكون «رفاهية» حضور اجتماعات شبه يومية لساعات طويلة، لا تملكها مثلاً الشابة التي تعمل من الثامنة صباحا حتى العاشرة مساءً. المشكلة لا تكمن فقط في خلفية «الناشطين» ومواقعهم، بل أيضا في عدم إدراك العديدين منهم لامتيازاتهم. ما يعيد انتاج التركيبة التنظيمية للـ»آن جي اوز» في مجموعات الحراك: أقلية من الطبقة الوسطى الشابة المتعلمة تدعي تمثيل الآخرين والتفرّغ للدفاع عن حقوقهم. يطغى خطاب صريح: تلك الفئات غير مرحب بها في الحراك. أوضحت حملة «طلعت ريحتكم» في مؤتمرها الأخير، على نحو لا لبس فيه، أن «نحن» تختصر على «تلاميذ الجامعات، الاساتذة، الناشطين، الموظفين، أصحاب الشركات، الفنانين.. وولاد البيوت». لا يسعى هذا الخطاب إلى تمييع التناقضات الاجتماعية فحسب، بل إلى «تنقية» الحراك طبقياً ايضا. ليس مقصوداً بـ»الموظفين» إلا «أولاد البيوت» منهم.
«المفاجآت» والتحركات المباشرة «الرمزية» تسعى على نحو أساسي لانتزاع الوجه الجماهيري للحراك. منذ 29 آب، تحوّل آلاف المشاركين إلى «مشاهدين» خلف شاشاتهم، وبالتالي أصبحوا أكثر عرضة لإعلام السلطة عبر «بروباغندا» الشغب، «المندسين» وجدار فندق «لو غراي». كذلك، تحرّك جمع النفايات الذي نظمته حملة «طلعت ريحتكم» وقبلها «فرح العطاء»، يسعى بشكل أساسي إلى الترويج لصورة «الشباب المتفاني لبلده»، وهو أمر لا ننفيه بالضرورة، ولكن في ذلك دعوة للغاضبين إلى التزام بيوتهم. فلا داعي للاحتجاج ضد السلطات المختصة، هناك من يزيل النفايات مكانها. وهو أمر كرسته بجدارة الجمعيات غير الحكومية بسعيها للتعويض عن انسحاب الدولة من مهمّاتها الاجتماعية. حتى الشريطة البيضاء، التي دعت حملة «طلعت ريحتكم» «الجميع» إلى تعليقها في أماكن عملهم وسكنهم، لم تطاول فعلياً الجميع. وزعت الحملة تلك الشرائط على نحو اساسي على أصحاب السيارات، لا المارة. وباستثناء الدورة والكولا (مداخل بيروت)، لم يقصد الناشطون الأحياء الهامشية من المدينة. اختاروا مثلاً شارع فردان على حي اللجا.
لكن الإقصاء يستهدف «أولاد البيوت» أيضاً. خروج «طلعت ريحتكم» من الية التنسيق أخيراً، واشتراطها عدم مشاركة المجموعات الأخرى بشعاراتها ولافتاتها وخصوصياتها، يعبّران عن رغبة واضحة في احتكار ساحات الاحتجاج... وإخمادها. فانتقل الإقصاء هنا إلى المجموعات المنظمة نفسها. فمطلوب من المجموعات النسوية والمقعدين وأهالي المخطوفين وغيرهم طمّس خصوصياتهم والنزول جميعاً إلى الشارع بقمصان بيضاء، شموع في اليد وشعار «شيلوا الزبالة من الطرقات» الأوحد.
لا نعرف تحديداً إن كانت مجموعات الحراك، وعلى رأسها «طلعت ريحتكم»، تسعى إلى إعادة الزخم الجماهيري أم استحواذ «الناشطين» على الحراك بأسلوب «الآن جي اوز». إن كانوا يسعون إلى «ما قبل 29 آب» عبر توحيد المطلب وتوضيحه، فعليهم إعادة اشراك «المشاهدين»، المنظمين منهم وغير المنظمين، الشباب والأكبر سناً، «المستقلين» والمقربين من أحزابهم. لا يُفرض المطلب الجماهيري من غرف شبه مقفلة، بل باستقطاب المتضرّرين من الأزمة المعيشية والأكثر تهميشاً منهم، أو أقله محاكاتهم بلغتهم. المؤكد أن جعل شاب البسطة يشعر بأنه ليس بمقام المتظاهرين ليس بالبداية الموفقة.