«القدرة على العمل تحت الضغط، سواء منفرداً أو ضمن فريق، والقدرة على تأدية مهمات متعددة». أحد الشروط التي يتكرّر ذكرها في معظم إعلانات وظائف المنظمات غير الحكومية في لبنان. قد تبدو عبارات «تحت الضغط» و«تأدية مهمات متعددة» لا تستحق التوقف عندها، لكنها غالباً ما تنذر ضمنياً باستغلال في العمل. ولمَ لا؟ ففي ظل هشاشة الاقتصاد اللبناني، يلجأ العديد من الشباب أصحاب الكفاءات إلى البحث عن عمل في أحد أكثر الأسواق «نمواً»، سوق الجمعيات.
ويضطّر معظمهم إلى قبول ظروف عمل مجحفة بذريعة العمل لخدمة الشأن العام! وما حقوق العمل سوى تفاصيل صغيرة هدفها تحويل الأنظار عن قضايا أساسية مثل «الحدّ من الفقر»، «تمكين المرأة»، «الحكم الصالح»، «حل النزاعات وحوار الحضارات»، وسوى ذلك من المفاهيم التي أُسقطت من قبل المموّلين لتصبح من أهم الأولويات على حساب الحق بالعمل اللائق. 

ظاهرة منذ الاستقلال 

الجمعيّات في لبنان لم تنشأ حديثاً، فهي إحدى ركائز المؤسسات الطائفيّة الرعائية قبيل استقلال لبنان وانسحاب القوات الأجنبيّة منه عام 1946. وقد ازدهرت خلال الحرب للتعويض عن تعطّل الدولة، لكن بعد عام 1990، ومع رواج تطبيق السياسات الاقتصادية الهيكلية عالمياً، وما رافقها من انسحاب تدريجي للدولة الرعائية، تكاثرت المنظمات المدنية على نحو دراماتيكي. وبدأت أموال الجهات الدولية المانحة تُغدق بهدف معالجة التداعيات الاجتماعية للتغييرات البنيوية التي طرأت
على مؤسسات الدولة 
فقد تجاوز عدد الجمعيات المسجّلة وفق قانون الجمعيات 5600 في عام 2007. ولو اقتطعنا من هذا الرقم عدد الأحزاب السياسيّة والنوادي والجمعيّات الكشفيّة والروابط العائليّة، إضافة إلى الجمعيات الوهمية أو غير الناشطة، فإن العدد سيراوح بين 1200 جمعيّة و1500، وفق دليل منظمات المجتمع المدني عام 2010. 

مجالات عمل مفتوحة 

تنوّعت مجالات نشاط منظمات المجتمع المدني خلال السنوات الماضية، واختلفت المقاربات من خيري إلى خدماتي، فتنموي. وارتفع حجم التمويل وتعدّدت الجهات المانحة. ما فتح المجال أمام خلق فرص عمل جديدة قلّ نظيرها في القطاعين العام والخاص، وخصوصاً بالنسبة إلى الشباب أصحاب الكفاءات المتوسطة والعالية. وعلى سبيل المثال، وصل عدد الوظائف الشاغرة على موقع «دعم لبنان» (شبكة جمعيات مدنيّة) إلى حوالى 800 وظيفة في بعض السنوات، وفق المدير التنفيذي في جمعية «دعم لبنان»، باسم شيت. 




وقد اصطحب قطاع الجمعيّات المدنية أنواعاً جديدة من المهن غير معترف بها في القطاعين العام والخاص، كمهنة مدرب/ة حقوق إنسان، ميسّر/ة، أو مسؤول/ة مناصرة. كلها وظائف بدأت بعض الجامعات في لبنان تلحظ تخصّصات لها نتيجة طلب السوق. وكأسواق العمل في القطاع الخاص، شهد هذا القطاع تراجعاً في المكتسبات العمالية... لكن مستتراً بطبيعته التي «لا تبغي الربح». 

شرعنة انتهاكات العمل 

من الصعب إحصاء عدد العاملين في الجمعيّات، لأن نسبة قليلة منهم تعمل بعقود عمل ومصرّح عنها في الضمان الاجتماعي. وإن كان لديهم عقود، فهم في كل الأحوال يعملون فترات قصيرة الأمد (حسب مدة المشاريع)؛ وهنا بيت القصيد. فسوق عمل الجمعيات المدنية يتميّز بغياب مطلق للاستقرار الوظيفي. ويؤكد باسم شيت أنه فيما كان المموّلون يعملون سابقاً حسب البرامج (التي تمتدّ فترات أطول وتحتاج الى استراتيجية متوسطة الأمد)، هناك نزعة حالياً الى تمويل المشاريع القصيرة الأمد، والاعتماد على متعاقدين، لخفض كلفة العمل. 
مايا (اسم مستعار) لديها 10 سنوات من الخبرة في الجمعيات المدنية انتقلت خلالها الى 7 جمعيات مختلفة (أطول مدة قضتها في جمعية واحدة كانت عاماً ونصف عام). طوال تلك السنوات، لم تستفد من الضمان الاجتماعي سوى خلال عامين فقط، وبالتالي حُرمت جزءاً كبيراً من تعويض نهاية الخدمة. تعترف بأن لديها هاجساً يراودها دائماً في عملها من نفاد التمويل، أو انتهاء مدة المشروع. تقول: «ليس هناك استقرار في هذا المجال، وأكثر ما يرعبني هو موضوع الشيخوخة. لا أستطيع البقاء على صعيد التعاقد كل الحياة، ومن دون تعويض». 
تستذكر مايا حادثة حصلت معها حين كانت تعمل في جمعية تُعنى بحقوق النساء على برنامج يستهدف حقوق النساء الاقتصادية، من بينها الضمان الاجتماعي. تعبّر أنّها شعرت بالخجل وهي تعمل على هذه الحملة: «كيف يكون عندنا الوقاحة للعمل على الحماية الاجتماعية للنساء ونحن جمعية غالبيتها من النساء اللواتي يفتقدن الضمان الاجتماعي؟!». 
من جهتها عملت زينة (اسم مستعار) في جمعيات عديدة منذ عام 2003، ترى أنّ الانتهاك الأساسي هو اللعب على منظومة المفاهيم والقيم التي باسمها تُشرعن العديد من الانتهاكات في العمل. توضح: «لا يمكن المرء المطالبة بزيادة راتب ولا بالالتزام بساعات العمل ولا باحتساب أوقات العمل الإضافية... لأن العمل يضيع بين الوظيفة والتطوع». 
تُشير إلى غرابة أنها كانت توقّع أوراقاً تفيد بأن راتبها الشهري هو 900 دولار، فيما ما تقبضه فعلياً هو 700 دولار، وعندما اعترضت على هذا الأمر برّره المدير التنفيذي بأنّ الجمعية تقتطع من معاشات الموظفين لسداد مصاريف المكتب التي لم يلحظها المموّل في الميزانية. 
حالة زينة ليست فريدة من نوعها، فالموضوع مألوف في أوساط الجمعيات وإن كانت الذرائع مختلفة. فوليد مثلاً (اسم مستعار) يؤكّد أنّه يعمل منذ سنة في جمعية تُعنى بحقوق النساء، حُسم جزء من معاشه لدفع اشتراكات الضمان بالكامل، ضمنها اشتراكات صاحب العمل أيضاً! 



ترى زينة أنّ أكثر ما اختبرته من انتهاكات في عملها هو كثرة المهمّات الموكلة إليها، والخارجة عن نطاق «وظيفتها» بحجة أنّ العمل جزء منه تطوع. وفي هذا الإطار تستحضر فرح بسخرية أوّل تجربة عمل لها في جمعية متخصصة بشؤون اللاجئين، حين سألت مديرتها عن دوام العمل، فكان ردّها حازماً «ما في ساعات عمل بهيدي الجمعية، كلنا متطوّعين». تضيف فرح أنّها لم تستطع الصمود كثيراً في هذه الجمعية، إذ كان متوسط عدد ساعات عمل «الموظفين» 12 ساعة، إضافة إلى العمل (شبه الاعتيادي) غير المدفوع خلال عطلة نهاية الأسبوع. 
غير أنّ التجاوزات لا تتوقف هنا، يؤكّد رئيس تحرير المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين، أحمد الديراني. يقول إنّ غالبيّة الجمعيات ليس لديها آلية لزيادة الأجور، وغالبية العمال لم يحصلوا على زيادة الأجور التي أُقرّت مؤخراً. 
أكثر من ذلك، فبعض الجمعيات المدنية، بذريعة أنها علمانية، لا تلتزم بجميع العطل الدينية الرسمية، ولا تعطي إجازات بدلاً منها! في الجمعية الأخيرة التي عملت فيها زينة، كانت تستفيد من 8 أيام عطل سنوية فقط من أصل 15 يوماً، في مخالفة واضحة لقانون العمل. 
من جهة أخرى يُرصد التمييز على أكثر من صعيد.. «نحن لدينا عقدة الأجانب»، تلفظ مايا عباراتها بابتسامة استياء. تشرح أنها صادفت خلال عملها عدة حالات تمييز بين «المحليين» والأجانب؛ «ففي إطار التوصيف الوظيفي نفسه والمهمات والكفاءات المطلوبة وصل فرق الأجر إلى 300 دولار بيني وبين موظفة فرنسية، علماً أنّها لا تتقن اللغة العربية».
وتُشير مايا إلى أنّ «التمييز على أساس الواسطة موجود أيضاً». ووفقاً لإيضاحاتها فإنّ الموظفين الذين كانت علاقتهم أفضل مع المدير التنفيذي كانت معاشاتهم أفضل من غيرهم.
كذلك، يُرصد تمييز في الأجور حسب المموّل، بفارق يتجاوز عتبة 500 دولار للوظيفة نفسها!
مشاكل العمل هذه رُصدت أيضاً في استبيان نوعي أعده «المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين». فأبرز شكاوى موظفي الجمعيات التي جمعها متعلقة «بعدم الاستقرار في العمل والارتباط بتمويل قصير الأمد، إضافة إلى غياب الضمانات وغياب سياسة الشكاوى لدى المؤسسات». 
ويرى أحمد الديراني أن ظروف عمل موظفي الجمعيات الأهلية ما زالت أسوأ بكثير، رغم أنهم يحظون باستقرار في الوظيفة نتيجة انتظام التمويل من المؤسسات الدينية والطائفية. 
جنان ممرضة في مستوصف طبي، تابع لجمعية دينية، تعمل منذ 5 سنوات بالحدّ الأدنى للأجر، ليس لديها عقد عمل ولا تستفيد من الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي ولا حتى من إجازاتها السنوية. أما سامية فتعمل منذ 6 سنوات في جمعيّة تابعة لشخصية سياسية بارزة كمندوبة إعاشات. وتشير إلى أنّها لا تستفيد من الضمان أو التأمين الخاص. وراتبها دون الحد الأدنى. رغم ذلك، تبرّر الوضع بأنه «لا مشكلة لأننا نساعد الناس». 

التطوّع... أم العمل الرخيص؟ 

معظم هذه الانتهاكات تحصل تحت عنوان كبير اسمه التطوّع. يُعرّف برنامج متطوعي الأمم المتحدة العمل التطوعي بأنه «مساهمة غير ربحية وغير مدفوعة يمنحها الأفراد من أجل خير أوساطهم ومجتمعهم»، لكن بعيداً عن مثالية هذا التعريف، يتضح أنّ التطوع أصبح في كثير من الأحيان مرادفاً لعمل رخيص. 
فتمويل عمل الجمعيات أفرغ النشاط التطوّعي من مضمونه السياسي ـــــ المطلبي عبر مأسسته وحرفنته وإدخاله في منهجية المشاريع. 
تظهر جوانب التعاطي مع المال لدى المنظمات غير الحكومية في الأمثلة التي اختبرها وليد خلال عمله في هذا المجال. فهو رأى كيف تنفق الأموال بسخاء في الفنادق وعلى التاكسيات، لدرجة أنّه لم يعد يجرؤ على إقناع الفئات المستهدفة، ومعظمها من مناطق فقيرة ومهمّشة، بالتطوّع. 
يقول وليد: سير الأمور على النحو، يلغي روح التطوّر كلياً. ويُشير تحديداً إلى حادثة شهدها أخيراً: فيما كان باب التقديم لوظيفة شاغرة مفتوحاً، وكان مسؤولاً عن مراجعة طلبات المرشحين، علم صدفةً أن المديرة التنفيذية التقت شابة جاءت للتطوّع في الجمعية، وعرضت عليها هذا العمل مجاناً! أما التمويل المخصّص لهذه الوظيفة، فاتجه نحو النشاطات، وخصوصاً أنّ معظم المموّلين يفضلون الاستثمار في الأنشطة على حساب الموارد البشرية، كون الأنشطة تعطي شهرة أكبر للجمعية وللمموّل معاً. 

من هو صاحب العمل؟ 

علاقات العمل في هذا القطاع ملتسبة، ولا شكّ في ذلك. فهويّة العامل مغيّبة بين التطوّع والعمل، وصاحب العمل غير واضح المعالم الوظيفية، متأرجحاً بين مجلس الإدارة، المدير التنفيذي والمموّل. فإن كان صاحب العمل قانوناً هو الهيئة الإدارية، فغالباً ما تكون السلطة الفعلية بيد المدير التنفيذي. 
بالنسبة إلى زينة، المدير التنفيذي هو صاحب العمل، بمعنى أنّه الشخص الذي تفاوضه على حقوقها في العمل، فيما «دور الهيئة الإدارية في هذا المجال غالباً ما يكون هامشياً». 
وينوّه وليد بأنّه رغم علاقة العمل المباشرة اليومية مع مديرته التنفيذية، فإن المموّل يتحمّل مسؤولية كبيرة، لجهة تحديد شروط العمل. 
ومن جهتها تجزم مايا بأنّ معظم المموّلين لا يراقبون ظروف العمل، حتّى إن لاحظوا انتهاكات في العمل، يغضون النظر عنها. 
إذاً، يظهر أنّ علاقة العمل فعلياً ثلاثية الأطراف: الموظف، إدارة الجمعية والمموّل. العنصر الأخير قد يبدو غائباً، لكن تأثيره كبير. 
من هنا، وإن كان استغلال العمال في القطاع الخاص يقوم على تقليص حصّتهم من القيمة المضافة لصالح زيادة رأسمال الشركة وزيادة أرباح المستثمرين، فإنه يبدو أنّ الاستغلال في قطاع المنظمات غير الحكومية يقوم على تقليص كلفة العمل (أجور وحماية اجتماعية) في التمويل لاستثمارها في مشاريع وأنشطة، بهدف منافسة باقي الجمعيات وجذب المزيد من التمويل. 
وهناك أيضاً مشكلة منطق العاملين أنفسهم الذي يعتمد مقاربة الحوار و«حل النزاع». وذلك بغض النظر عمّن يمتلك السلطة. ويبقى السؤال الأهم إن كان بإمكان موظفي المنظمات غير الحكوميّة، الذين اعتادوا قوننة الصراع وتمييعه، أن يفتحوا معركةً للدفاع عن حقوقهم.



نقابة قيد التأسيس


بادر عدد من عمّال وعاملات قطاع الجمعيّات في لبنان الى تأسيس نقابة من أجل المطالبة بحقوق هذه الفئة العمالية، وبأداء دور تنظيمي في القطاع، كما في تنظيم علاقة القطاع بالجهات المموّلة لضمان حقوق العاملين في عقود التمويل.
ونظراً لجمود الحركة النقابية في لبنان منذ السبعينيات، من حيت نسبة التمثيل، الفعالية وتوقف الأجيال الشابة عن الانخراط في العمل النقابي، فإنّ دخول فئات شبابية ـــــ تتميّز بقابلية عالية للحركة، وقدرة على التواصل مع الفئات المهمشة ـــــ إلى المشهد النقابي الحالي أمر بالغ الأهمية، وفقاً لمستشار النشاطات العمالية في منظمة العمل الدولية، مصطفى سعيد. يؤكّد هذا الخبير العمالي أنّ «تأسيس هذه النقابة ونجاحها سيمثّلان أداة مهمة تعيد ربط القواعد العمالية من خلال تنظيمها، ما يمكن أن ينعكس على تفعيل الحركة النقابية نحو مزيد من الديموقراطية والاستقلالية».
غير أنّ تحديات كبيرة لا تزال تقف أمام بلورة هذه «الفكرة»، أهمها وفق بعض أعضاء اللجنة التأسيسية: أوّلاً، ضبابية علاقة العمل بالنسبة إلى العاملين في الجمعيات. ثانياً، تعاطي الكثير من العاملين في الجمعيّات مع مشروع النقابة بمنطق «حملة مطلبية» لا عمل نقابي. ثالثاً، صعوبة الوصول إلى الفئات المتضرّرة على نحو مباشر، أي مع عمّال وعاملات الجمعيّات الدينيّة والطائفيّة.



ما يطلبه المموّلون

يوضح أحد العارفين بآليات اختيار المشاريع أنّ بعض المموّلين يطلبون من الجمعيّات عدم التصريح عن موظفيها في الضمان الاجتماعي، لأن هذا الأمر يُقلّص من فرص حصولها على التمويل اللازم، مقارنةً بجمعيات أخرى تمتنع عن التصريح!
ووفقاً لرئيس جمعية «مسار»، كمال شيّا، فإن التمويل يحُدّ أحياناً من إمكان تحسين ظروف الموظفين. غير أنّ المدير التنفيذي في شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية (ANND)، زياد عبد الصمد، يرى أنّ تأثير المموّل يختلف حسب حجم الجمعية وسمعتها، بحيث إنّ الجمعيات المتوسّطة لديها القدرة على الحصول على تمويل منتظم، كما يمكنها فرض شروطها بالنسبة إلى ظروف عمالها، أكثر من الجمعيات الصغيرة أو البالغة الصغر.
وفي الواقع، كان من الصعب معرفة موقف الجهات المانحة الرئيسية في لبنان لأسباب مختلفة. فالمسؤولة الإعلامية في الاتحاد الأوروبي كانت في مهمة خارج البلاد، بينما وظيفة المتحدث/ة الإعلامي/ة في الوكالة الأميركية للتنمية (USAID) شاغرة في الوقت الراهن، لكن إلياس حداد، الذي شغل هذه الوظيفة سابقاً، أكّد أنّ «الوكالة لا تتدخل في تحديد ظروف عمل موظفي الشركاء المحليين».