لم تكن جدّتي تشبه جدّات الحكايات. لم تجلس يوماً على كرسي هزّاز أمام المدفأة، تلفّ كتفيها بشال يغطي نصف يديها وتحوك الصوف وإلى جانبها يلهو هرّ سيامي بالخيطان المتدلية من صنارتيها. لم تكن تلبس النظارات، التي تراقب من خلفها جدات الحكايات، الأحفاد يلهون من حولها. لم تأخذ جدتي من الحكاية سوى شعرها الأبيض الذي كان أجمل من الحكاية. ولكنها لم تكن تعقصه خلف رأسها، بل تتركه منسدلاً على كتفيها وتخفيه خلف منديلها الذي لم يكن يوماً إلا أبيض. شعرها والمنديل أبيضان. هكذا أذكرهما، بل هكذا كانا. ولم يكن الأبيض أسود إلا في صورة شمسية سقط فيها المنديل ليكشف عن سواد ليليّ حالك. لم تكن جدتي، جدة في حينها. كانت في عزّ صباها وشبابها. بعدها جاء المنديل الأبيض الذي كنت، حين ألحّ عليها أن تزيله عن رأسها، تنهرني في نوبة من الضحك وشتائم الجدات. كنت أحب شعرها وكنت أتلصص عليها حين تطلق سراحه من تحت المنديل لتسرحه بمشط من العظم العاجي اللون قبل أن تعود فتخبئه مجدداً تحت منديلها. لم تكن جدتي تشبه جدات الحكايات، لأنها تنتمي إلى جيل ما قبل الحكاية التي جعلت من الجدات صورة في كتاب القراءة أو قصص الأطفال. لذا، كانت الحكايات التي ترويها لنا مختلفة. هي حكايات من خبايا ذاكرتها التي حافظت على ترتيب أحداثها كما سجّلتها في المرة الأولى. أبطال حكاياتها نساء بلدتها ورجالها، أما أحداثها فتدور حول مجزرة حولا عام 1948، وهروب الأهالي مشياً إلى القرى المجاورة. يومها، كان لجدتي ابنة وحيدة هي والدتي التي لم تكن قد أتمت أيامها الاربعين بعد. تقول الرواية إنها أودعت طفلتها، أي والدتي، تحت إحدى الشجيرات لأنها لم تستطع الجري بها بعيدا، وإن أحد الهاربين وجدها وحملها وأعادها لاحقاً إلى عائلتها. ترفض جدتي هذه الرواية التي كنا نعيدها على مسامعها خلال الأعوام اللاحقة لنثير غيظها. قبل أشهر قليلة من رحيلها، سألتها لماذا تركت والدتي تحت الشجرة. فجنّ جنونها، وقالت لي إن هذه تهمة باطلة، وروت لي الحكاية كما لو أنها حصلت في الأمس القريب من دون أن يفوتها أي تفصيل: روز هي التي تركت أحد أولادها لأنها كانت تركض مع ثلاثة أطفال، وطفلة رابعة في حضنها.
لم ينضب مخزون جدتي من الحكايات التي كانت ترويها أفضل من أي حكواتي. ورغم أن قصصها كانت دوماً عن التهجير والحروب التي شكلت جزءاً كبيراً من يومياتها، لم تكن نبرتها مأساوية أو حزينة. كان حديثها المطعم بتعابير جنوبية «قحّ» ممتعاً ومسلياً. فإلى هروبها من مجزرة 1948، كان في انتظارها هروب من مجزرة أخرى في منطقة بئر العبد في الضاحية الجنوبية، كادت تأتي على أفراد عائلتها كلّهم. وتقول حكاية أخرى، إنه في خضم المعارك بين الحزب الشيوعي وحركة أمل في مطلع الثمانينيات، هاجم مسلحون البيت لتصفية أبنائها الذين ينتمون إلى الشيوعي، لكنها كانت قد نجحت في إخراجهم من باب خلفي بعدما أبلغها أحد الجيران أن مسلّحين دخلوا المبنى، وهم يهدّدون بتصفية العائلة.
ولكن يبدو أن جدتي ملّت الهروب. لذا بقيت في القرية، وأمضت هي وجدي 33 يوماً خلال حرب تموز 2006 في غرفة صغيرة أسفل البيت، يسمونها «الأرضية» في مصطلحات أهل القرى. و«الأرضية» هي عبارة عن أعمدة الأساس التي حوّلها والدي عام 1976 إلى غرفة لنستقرّ فيها، بعدما أصبح بيتنا في المشرفية امتداداً لخط التماس بين الشياح وعين الرمانة. أقام جدي وجدتي 33 يوماً في هذه الغرفة، التي كان الخروج منها لبلوغ المراحيض في الطابق العلوي مغامرة. انقطعت أخبارهما طوال حرب تموز، وصارت يومياتهما الطويلة في هذه الغرفة التي يتواصلون من خلالها مع العالم الخارجي بواسطة نافذة صغيرة، حكايتها الجديدة.
لم تكن جدتي تشبه جدات الحكايات في اهتمامها بأحفادها، وخصوصاً أنا وشقيقي أول أحفادها، وقد حظينا برعاية واهتمام مميزين. لم تحمل لنا في جعبتها لوزاً وسكر اً كلما تفعل جدات الحكايات. لكنها كانت خط الدفاع الأوّل في مواجهة أي تأنيب قد يطالنا. كانت تخصنا بـ«خرجية» (مصروف) تفوق تلك التي تعطيها لأولادها، الذين كنا نقاربهم في العمر، وتتواطأ معنا على هذا السرّ الصغير. كانت تخصّنا بـ«طلامي» السكر التي تخبزها على الصاج خلف البيت. وكان إيقاظنا باكراً لمشاركتها في إعداد الخبز تعبيراً عن مدى حبها لنا وخصوصاً أنها لم تكن تحب أن يعكّر عليها أحد صفو هذا الطقس الاسبوعي.
... رحلت جدتي وتركت خلفها منديلها الأبيض، وحكاياتها التي لا تشبه أي حكايات. ولكن لماذا ترحل الجدات؟