استعدت مصارف لبنانية، بالتعاون مع المصرف المركزي، لإجراء تعديلات جوهرية على قانون النقد والتسليف. تطاول هذه التعديلات على نحو خاص الاحكام المتصلة بتطبيق قانون السرية المصرفية في لبنان. وتأتي نتيجة الضغوط الاميركية على القطاع المصرفي اللبناني لإرغامه على تطبيق قانون «فاتكا» الشهير، الذي اقره الكونغرس الأميركي.
يفرض قانون فاتكا على المصارف في كل انحاء العالم ان تبلغ وزارة الخزانة الاميركية مباشرة بكشوف حسابات عملائها من حملة الجنسية الاميركية، أو الحائزين الـ«غرين كارد»، او حتى الذين يشك المصرف في أنهم من المقيمين في الولايات المتحدة. ويعدّ ذلك انتهاكا صارخا للسرية المصرفية المعمول بها في لبنان.
وكان المصرف المركزي اللبناني قد حاول تنظيم عملية التبليغ بموجب قانون «فاتكا»، اذ عرض على وزارة الخزانة الاميركية صيغة بأن يقوم هو بالتبليغ نيابة عن المصارف المحلية، الا ان الجانب الاميركي رفض ذلك. واصرّ على علاقة مباشرة بين الوزارة وكل مصرف في لبنان على حدة. وبالتالي اصبح كل مصرف في لبنان، مجبراً على التبليغ مباشرة، من دون المرور بالمؤسسات السيادية اللبنانية، ومنها المصرف المركزي، اذ يفرض قانون «فاتكا» لائحة عقوبات على أي مصرف لا يلتزم ببنوده، تصل الى حرمانه اعتماد جهة مصرفية او مالية اميركية لتقوم بدور تمثيله او المراسلة او حتى فتح حساب مصرفي له لدى المصارف الاميركية، وبالتالي يصبح غير قادر على اجراء المقاصة بالدولار الأميركي.
عملية التبليغ لا تشمل فقط اطلاع الخزانة الاميركية على أرصدة حسابات العملاء المستهدفين بالقانون المذكور، بل تتعداها الى تقديم كشف لها عن حركتها أيضاً، ومجمل البيانات الشخصية المقدمة من قبل العميل الى المصرف، ما يعني الحصول على أرشيف معلوماتي كامل لمصلحة قسم مكافحة الارهاب المالي في الخزانة الاميركية، يتضمن جردة باملاكه المنقولة وغير المنقولة. والمعروف ان قانون «فاتكا» وضع لمكافحة التهرب الضريبي من قبل المواطنين الأميركيين. ويؤدي تطبيقه الى جعل فئة من عملاء المصارف اللبنانية مكشوفة امام السلطات الاميركية، في الوقت الذي يمنع فيه القانون اللبناني خرق السرية المصرفية. وبالتالي فان المصارف العاملة في لبنان بإذعانها لتطبيقات «فاتكا» تكون قد خالفت القانون المحلي، وباستطاعة عملائها الادعاء عليها بتهمة خرق السرية المصرفية، في ما يخص ودائعهم. لذلك، تقول مصادر مصرفية، إن المصارف اللبنانية ضمّنت العقود مع عملائها المشمولين بتطبيقات «فاتكا» بندا يسمح لها بكشف حساباتهم. الا ان هذا التدبير لا يعالج الاشكالية القانونية، ما دفع الى إعداد مشروع قانون، يجري تحين الفرصة المناسبة لإقراره في مجلس النواب، يتضمن تعديل بند السرية المصرفية في لبنان، لمصلحة ملاءمته مع القانون الأميركي.
وبحسب المصادر المصرفية، ثمة نحو مئة الف لبناني مودع في المصارف اللبنانية ينطبق عليهم قانون «فاتكا»، إلا ان هذه المصادر تعتقد ان انعكاسات تطبيق هذا القانون على الأميركيين اللبنانيين المقيمين في الخليج وأفريقيا ستكون كبيرة لاسباب عديدة؛ أولها انه سيؤثّر في تحويلاتهم المالية الى لبنان. ثانيها ان المودعين اللبنانيين الأميركيين في أفريقيا هم بمعظمهم شيعة، وبالتالي قد يتيح تطبيق «فاتكا» تحقيق أهداف تتعدى اختصاصه بمكافحة التهرب الضريبي الى استكمال حلقات مطاردة «اللبنانيين» تحت عنوان تجفيف مصادر تمويل حزب الله. وتشير المصادر المصرفية الى أن القوانين المالية التي يشرعها الكونغرس الأميركي، هي في ظاهرها قوانين داخلية تنظم عمليات التحصيل الضريبي لمواجهة الازمة المالية، لكنها في الجوهر تؤدي الى خرق سيادة الدول وتخدم اهدافاً اميركية سياسية.
مشروع تعديل السرية المصرفية في لبنان، الجاري إعداده الآن بعيداً عن الأضواء بالتنسيق بين مصارف لبنانية اساسية والبنك المركزي، يواجه مشكلة تعذر اجتماع مجلس النواب بسبب الخلافات السياسية السائدة في لبنان، علما ان اتصالات تجري وراء الكواليس تدرس افتعال مناسبة تسمح بعقد جلسة للبرلمان لاقرار نص.
في سياق متصل، تشير المصادر الى ان الدول الارووبية التي وافقت على تطبيق «فاتكا» ـــ نحو سبع دول ـــ تمكنت عبر مفاوضات مع الولايات المتحدة من جعل عملية التبليغ تجري عبر مصارفها المركزية حصرا، لا عبر كل مصرف على حدة. وجرى التوافق على عملية تبادل بالاتجاهين للمعلومات حول المودعين. وما يهم لبنان بهذا الخصوص هو ان الاتحاد الاوروبي يُعدّ ايضا قانوناً أوروبياً يسري على جميع بلدان الاتحاد مشابهاً للقانون الاميركي، وذلك تحت عنوان مكافحة التهرب الضريبي من قبل مواطني دول الاتحاد الاوروبي حول العالم . وسوف تطبق مفاعيل هذا القانون الاوروبي على المواطنين اللبنانيين من حملة الجنسيات الاوروبية، او بطاقات الإقامة في دولها. والسؤال هنا، هل سيخضع النظام المصرفي اللبناني لإملاءات قانون «فاتكا» الاوروبي بالشروط نفسها التي خضع بها لقانون «فاتكا» الأميركي؟
يعلق مصدر مصرفي لبناني على تأثيرات قانون فاتكا في القطاع المصرفي في لبنان بالقول: «إن وزارة الخزانة الاميركية اصبح لها سلطة مساءلة مباشرة على كل مصرف لبناني، وباتت هذه المصارف تخضع لابتزازها بعدما فقدت بموجب تطبيقات قانون «فاتكا» امتياز الحماية من السلطات السيادية اللبنانية، اكان المصرف المركزي او السلطات القضائية او الحكومية. وأكثر من ذلك، فإن القطاع المصرفي في لبنان وصلته الرسالة الأميركية حول الطريقة التي ستتعامل بها الادارة مع اي مصرف في العالم لا يلتزم بقانون «فاتكا». فمعلوم ان سويسرا كانت تعد نموذجاً لقانون السرية المصرفية في العالم؛ لكن تجربة مصارفها مع وزارة الخزانة الاميركية، قادتها الى التخلي عن سريتها المصرفية.
والمثل الحاضر في أذهان مصارف لبنان اليوم هو ما حصل مع مصرف «او بي اس» السويسري، بعد رفضه طلبا اميركيا بالتبليغ عن حسابات خمسة آلاف مواطن اميركي مودع لديه. وكان المصرف قد تحصن في تعليل رفضه بموجبات التزامه بالقانون السويسري، لكنّ وزارة الخزانة الاميركية هددته بمنعه من التعامل مع اي جهة على الاراضي الاميركية. وحينما أبدى المصرف ثباتا على موقفه، ورفع قضية خلافه مع وزارة الخزانة الاميركية الى المحاكم السويسرية، اصدر مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي منذ عام ونصف عام، عشرة آلاف مذكرة توقيف دولية بحق موظفي المصرف بتهمة تبييض الاموال، ما أجبر المصرف على الرضوخ للمطلب الاميركي، وتعديل القانون السويسري على نحو يلغي السرية المصرفية».