قتيل وتسعة عشر جريحاً حصيلة حادثين وقعا خلال يومين في عكار. ومع ذلك، لم يلفت الأمر عناية أي مسؤول في الدولة، تماماً كما لم يلفته أن رداءة طريق عكار الوحيدة تعيق تنمية منطقة فاق عدد المقيمين فيها نصف مليون نسمة.
ليس أسوأ من طريق عكار وما تحدثه من حوادث مميتة سوى طريقة العلاج التي تحول تلك الحوادث، وبعضها مفجع، إلى كوارث جماعية، تكاد تمثّل العامل الأبرز في تخلف المنطقة ورمي أبنائها في أتون القهر والذل الدائمين.
بحساب المسافة الفاصلة بين وسط عكار في حلبا وطرابلس هناك ثلاثون كيلومتراً، يمكن أن تقطع بنصف ساعة على أبعد تقدير، كما هي الحال بالنسبة إلى العديد من المناطق المحاذية لبيروت.
تبدأ القصّة في عكار من نقطة الانطلاق في حلبا، وتزداد صعوبة وخطراً على مفرق منيارة، وترتفع وتيرتها في بلدات وادي الجاموس وبرج العرب وبرقايل وببنين، شاملة في ذلك عابر السبيل كما أبناء كل بلدة بعينها. حتى إذا ما تجاوز العابرون مدخل طرابلس في محلة البداوي، كان اليأس قد استبد بهم، وبدت مهماتهم العملية من وظيفة، أو أي أمر آخر، أخف وطأة من التفكير في طريق العودة.
تلك هي حال نصف مليون عكاري، وقد أضيف إليهم مئات آلاف النازحين الذين تتهرب الجهات المعنية من تعدادهم هرباً مما يترتب على ذلك من مسؤوليات.
منذ أيام، سقط الجندي سامر عوض صريع حادث سير على مفرق بلدته عرقا، وجرح معه أربعة من إخوته، إضافة إلى جرح عشرة ركاب آخرين. قطع الأهالي الطرقات، نفّسوا عن غضبهم، ازدادت اختناقات السير في كل المناطق المحيطة، وبعد ساعتين راح كل واحد إلى حال سبيله. وعلى بعد كيلومترين من عرقا، قطع أهالي بلدة جديدة الجومة طريق حلبا، احتجاجاً على رداءة الطريق، وبعد ساعة عادوا إلى منازلهم على وعد من المسؤولين بتلبية المطالب. وبين الحادثتين، وقع حادث سير على مفرق بلدة بحنين أدى إلى سقوط خمسة جرحى. لملم الأهالي جرحاهم، لم يحتجوا ولم يطالبوا، آخذين في الحسبان أن حادثاً مماثلاً وقع منذ أقل من أسبوعين، أدى الحادث بحد ذاته إلى قطع الطريق، ومن شدة الازدحام ظلت صفارات سيارات الإسعاف تدوي أكثر من ساعة حتى بلغت مكان الحادث، وغالباً وصلت بعد فوات الأوان.
«نحن في عكار فائض بشري لا لزوم له»، هكذا عبّر رئيس بلدية عرقا عامر حداره في اتصال مع الأخبار، فقال تحديداً :«شو ما راح من الجان يخف على الملائكة»، وأوضح قصده بالجان «الشعب التعبان في عكار»، والملائكة هم المسؤولون في الدولة. وأشار حداره إلى الوعود التي أبرمتها حكومة تصريف الأعمال بتنفيذ طريقين فرعيين للوصول إلى منطقتي الدريب والجومة من دون المرور بمركز القضاء حلبا، إذا بالأهالي يكافحون لمعالجة الطريق الأساسية التي تصل حلبا بسائر البلدات الكائنة على الطريق العام حيث «الجورة بتغرّق زلمي». وتعليقاً على كمية المطبات المنتشرة على طرقات عكار (أربعون مطباً على سبيل المثال لا الحصر بين حلبا والقبيات، أي بمعدل مطب كل ستمئة متر)، سأل حدارة عن دور وزارة الأشغال بوصفها مسؤولة عن الطرقات العامة، ومراقبة التعهدات التي يجري تنفيذها، ووصف حجم الفساد في طريقة التلزيم بقوله: «سمسار يدفع في الوزارة، يوقع التعهد لمصلحة متعهد، والمتعهد بدوره يحوله إلى متعهد آخر، يقبض الأول كلفة التعهد، والتنفيذ ع التيسير». ولأن لتركيب المطبات معايير لا تؤذي السيارات، وتخفف من سرعة السير، فقد تقدم رئيس البلدية بطلب إلى وزارة الأشغال في هذا الخصوص، ولم يحصل على أي رد، وفي المقابل يعمد أي مواطن، ساعة يشاء وأينما يشاء، إلى وضع كومة من الزفت (مطب)، لا من يسأل ولا من يحاسب، يختم رئيس بلدية عرقا.
أما عن الأوتوستراد الوحيد الذي يربط عكار بطرابلس وطوله سبعة كيلومترات، والذي شُرع في تنفيذه عام 1989، ولا يزال لغاية اليوم قيد التنفيذ، يقول رئيس بلدية المنية مصطفى عقل «بيخلص لبنان قبل إنهاء الأوتوتستراد»، لذلك، يضيف عقل اضطرت البلدية إلى وضع مطبات على بعض المفارق، على أن تزال بعد الانتهاء من العمل، وإغلاق متفرعاته. لكن واقع الأمر أن عدداً كبيراً جداً من المؤسسات التجارية نشأ على جانبي الأوتوستراد خلال مدة إنجازه الطويلة، ما يحول دون إقفال المتفرعات.
لتلافي هدر الوقت والمال والأعصاب على طريق عكار، منفذها الوحيد باتجاه طرابلس وباقي المناطق اللبنانية، غادر قسم من أهالي عكار قراهم وبلداتهم، وتركوا أعمالهم الزراعية وما يدور حولها من أنشطة حرفية.
جاءت خطوات المعنيين تكريساً لعزل عكار. فعلى سبيل المثال، جرى إنشاء شعبة لكلية العلوم في الجامعة اللبنانية في حلبا، لا يتوافر فيها أي شيء من بيئة التعليم الجامعي، علماً بأن كلفة تأمين حافلتين لنقل الطلاب إلى طرابلس لا تعادل أجر أستاذين جامعيين، هذا في حال كان لعكار طريق مثل باقي طرقات العالم.