قبل أيام قليلة من الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان، في أيار عام 2000، أجريت مقابلة مع العميل أنطوان لحد في منزله في مرجعيون وسألته ماذا سيفعل إذا فاجأه الجيش الاسرائيلي بالانسحاب، فأجابني بثقة ومن دون تردّد «سأحتفظ بالشريط الحدودي من شبعا إلى الناقورة، وعلى أيّ حال لا تصدّقوا الإشاعات، فالجيش الاسرائيلي لن ينسحب». قلت له حينها، بثقة كاملة واستخفاف بثقته بنفسه: «يا جنرال، إذا كان الجيش الاسرائيلي معك بكل قوته ولم تتمكن من صد هجمات المقاومة، ألا ترى أن في ما تقوله مبالغة؟، فكان ردّه «من يعش يرَ».
كانت الأجواء، في الأيام التي تبعت المقابلة، تشير إلى أن الانسحاب الاسرائيلي بات وشيكاً، من دون أن يكون لدى أحد أي معلومات عن تاريخه. حتى أنطوان لحد نفسه كان قد سافر مطمئناً لزيارة عائلته المقيمة في باريس. صبيحة 22 أيار عام 2000، وصلت كالعادة إلى مكتبي في إحدى الوكالات الاجنبية التي كنت أعمل مراسلاً لها. مضى الجزء الأول من النهار وأنا أمارس عملي المعتاد في كتابة بعض الأخبار، قبل أن تبدأ الاتصالات بالتواتر من مراسلي الوكالة في الجنوب، وكلها تفيد أن هناك حركة غير طبيعية للأهالي ولمقاتلي حزب الله على أطراف المنطقة الوسطى والغربية للشريط الحدودي المحتل. اتصلت بمراسلي الوكالة داخل المنطقة المحتلة، فأفادوني بأن هناك تجمعات كبيرة لجنود الاحتلال تأتي من المواقع التي يحتلونها، وأنهم يرجحون أن تكون عملية الانسحاب قد بدأت. لم يكن بالإمكان مغادرة المكتب، إذ كنت وحيداً مع مدير الوكالة الأجنبي حينها. تسارعت رسائل المراسلين، وتسارعت معها المعلومات عن تجمعات لجنود الاحتلال تكبر وتتجه الى فلسطين المحتلة، فيما بدأ بعض عناصر ميليشيات لحد بالهرب من مواقعهم أيضاً.
عند المساء جاءني اتصال هاتفي من أحد مصادر معلوماتي في ميليشيا لحد قرب قلعة الشقيف، أفادني فيه أن الجيش الاسرائيلي يُعدّ لتفجير عتاده الثقيل في القلعة، لأنه لا وقت لديه لسحبه، وأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى تدمير القلعة تدميراً كاملاً. أبلغت مدير الوكالة بالأمر، فسارع إلى إبلاغ بعض معارفه في منظمة الأونيسكو، في حين أجريت من جهتي اتصالاً بصديق لي كان ضابطاً في موقع نافذ في استخبارات الجيش (و. س.) وأبلغته الأمر. لم يتوان هذا الصديق عن إبلاغ كل من يعنيه الأمر، وجرت تحرّكات رسمية ودبلوماسية كبيرة أدّت في النهاية إلى منع تفجير القلعة.
ذهبت الى النوم في وقت متأخر، ولكن عند الساعة الثالثة فجراً تقريباً رن هاتفي الخلوي، وفوجئت بصوت الزميلة في صحيفة النهار (هـ. ق.) تقول لي إن حالة هلع شديد تسيطر على أهالي قرى رميش وعين إبل ودبل، وقد توجه المئات منهم إلى الكنائس يقرعون أجراسها تضرّعاً لله كي لا يصيبهم مكروه، فيما توجه آخرون إلى أحد المعابر مع فلسطين المحتلة طلباً للنجاة من «البطش» المنتظر لمقاتلي حزب الله. عند سماعي كلامها، سارعت مجدداً إلى الاتصال بصديقي ضابط الاستخبارات لأستفسر منه عن الأجواء، فطلب مني أن أحادثه بعد ربع ساعة، قال لي بعدها «إن كنت تستطيع التحرّك في هذا الوقت إلى الجنوب، وتمكنت من الوصول إلى أهلنا في قرى رميش وعين إبل ودبل، اعمل جاهداً على إبلاغهم أن أحداً منهم لن يمسّ بسوء، وأن حزب الله لن يقترب من قراهم ومنازلهم، وأن الجيش اللبناني في طريقه إليهم». أنهيت المكالمة ونهضت من فراشي، واتصلت بمدير الوكالة وأخبرته بالتفاصيل، وطلبت منه السماح لي بالتوجه إلى الجنوب فوافق بلا تردد. اتصلت بسائق الوكالة (ح. س.) وطلبت منه أن يأتي إليّ على الفور. وبعد أقلّ من ساعة كنا، السائق وأنا، في سيارته المرسيدس نسابق الريح متجهين إلى الجنوب. أعاقت حواجز الجيش حركتنا بعض الشيء، وعند الساعة السادسة والنصف صباحاً وصلنا إلى دوار «صف الهوا» على أطراف مدينة بنت جبيل. كانت هذه النقطة تشكل حاجزاً كبيراً لجيش الاحتلال وميليشيا لحد، لكن عندما وصلنا إليها كانت قد أصبحت في يد المقاومة. لم يسمح لنا أبو علي، مسؤول الموقع في حزب الله، بأن نواصل سيرنا باتجاه عين إبل، حرصاً على أمننا. ولم تنجح كل محاولاتي لإقناعه. فلجأت إلى خطة أخرى، إذ طلبت من السائق أن يوجّه السيارة باتجاه عين إبل، وأن يبقي محرّكها شغالاً، وأن يبقى في داخلها، وأخذت أتحيّن الفرصة للتملص منه، وها هي قد حانت، إذ ناداه أحد المقاتلين لكي يردّ على الهاتف في الداخل، فأسرع راكضاً نحو المبنى فيما صرخت أنا «شكراً كتير أبو علي»، موحياً لعناصر الحاجز بأن الأخير سمح لي بمواصلة السير.
على جانبي الطريق بين بنت جبيل وعين إبل، كان المشهد سوريالياً بامتياز. شاحنات عسكرية على الطريق محمّلة بأنواع مختلفة من الأسلحة والذخائر. رشاشات متوسطة وخفيفة وبنادق من مختلف العيارات مرمية في كل مكان. دخلنا عين إبل فكانت أشبه بمدينة أشباح. واصلنا سيرنا باتجاه بلدة رميش، كانت حالة الذعر واضحة للعيان، سيارات بأنواع مختلفة تحمل على عجل العائلات وبعض متاع، فيما الأب أو السائق يصرخ بزوجته وأبنائه أن يسرعوا، والوجهة هي أحد المعابر الحدودية مع فلسطين المحتلة عند أطراف البلدة. أمام هول المشهد، لم نتوقف في البلدة، بل واصلنا السير باتجاه المعبر. إلى هناك، كان الناس يصلون بسياراتهم ويتركونها على بعد حوالى مئة متر ويتابعون سيرهم باتجاه الحاجز الاسرائيلي، وكان يقف بينهم وبين الحاجز عنصر في ميليشيا لحد يضع على كتفيه رتبة نقيب (عرفت لاحقاً أن اسمه س. ش.) وفي يده قنينة ويسكي من نوع «شيفاس ريجال» وقد نقص محتواها حتى النصف تقريباً. كان يترنّح فيما يمرّ الناس عبره من دون أن يعيروه كبير اهتمام على الرغم من أنه كان معروفاً بقسوته وخوف الناس منه. وصلت إلى مقربة منه وأخذت أخبر العائلات الفارّة أني مراسل لوكالة أجنبية، وأن الجيش اللبناني أكد لي أن أحداً لن يمسّهم بسوء، وأن دوريات للجيش في طريقها الى بلدتهم رميش وإلى باقي القرى المجاورة. وبالفعل، تمكنت من إقناع أكثر من خمسين شخصاً بالعودة، فيما كان س. ش. يقول لي «كيف ستنام إذا ما أصاب أحدهم سوءاً بسبب أقوالك».
لم أعره اهتماماً، وواصلت التواصل مع الناس إلى أن جاءني اتصال يفيد بإصابة فريق صحافي في بلدة حولا بنيران جماعة لحد ومقتل أحد أفراده. كان هذا الاتصال كفيلاً بأن يجعلني أعود أدراجي إلى السيارة وأطلب من السائق التوجه بي الى حولا. في طريق العودة رأيت سيارة جيب للجيش اللبناني ترفع العلم في ساحة رميش قرب بركة الماء. وفي الطريق الى حولا كانت الزميلة ضياء شمس (راجع الإطار)، التي سبق لي أن أدخلتها إلى المنطقة المحتلة، تتصل بي لتقول إن الأهالي اقتحموا معتقل الخيام وأخذوا يحرّرون المعتقلين.
وصلنا إلى حولا بعد قرابة ساعة، استقصينا عمّا حصل بدقة وعن أحوال المصابين، فعرفنا أن أحدهم قد فارق الحياة. أجريت اتصالاً بمكتب الوكالة في بيروت لأعطي تقاريري على وجه السرعة. وقبل أن أواصل التحرك، اتصلت بي زوجة مراسل للوكالة في بلدة القليعة، تفيدني بأن مراسلنا وإخوته في حالة خوف شديد، وأنهم يعتزمون المغادرة مع المئات من أهالي البلدة الى فلسطين المحتلة. اتصلت به محاولاً طمأنته، ولكن الخوف كان قد سيطر عليه تماماً. فقلت له إني في طريقي إليه، قادماً من حولا، وإن أي حادث ضد المدنيين لم يسجّل طوال النهار، وطلبت منه أن ينتظرني. وصلت الى بلدة القليعة فوجدت مراسلنا في حالة يرثى له، لكن معنوياته ارتفعت مع رؤيته لي، وتمكنت بجهد بسيط من إقناعه بالعدول عن فكرة المغادرة إلى فلسطين المحتلة. وجاءت حادثة صغيرة لتؤكد له صوابية قراره، إذ وبينما كنا نتحادث في صالون منزله دخلت ابنته الصغرى علينا تصرخ بأن هناك شابين مسلحين على دراجة نارية يريدان أن يأخذا الشاحنة التي يملكها مراسلنا، فأجابها فليأخذوها مش مشكلة. لكني خرجت نحوهما لأكتشف أنهما مجرد لصين ينتحلان صفة رجلي أمن، وعندما طلبت منهما بطاقتيهما العسكريتين أو اسم الضابط المسؤول عنهما أدارا دراجتهما وفرّا مسرعين.
هذا بعض من القصة في يوم التحرير... والبقية في الذاكرة التي لا تستطيع أن تنسى بطولات من صنعوا بدمائهم فجراً عربياً جديداً.