لم يهرب أطفال مخيم نهر البارد من درس القراءة ولا من أي درس آخر. ثقل حقائبهم المدرسية، وهم يحملونها مسافات قد تزيد على الكيلومتر الواحد سيراً في البرد أو تحت أشعة الشمس، يثبت مقدار تعلقهم بالدراسة، على الرغم من أن شهادات الهندسة أو الطب والحقوق التي يحصلون عليها لا تحول دون أن يعمل أحدهم سائق تاكسي، أو ناطوراً مياوماً، يتهدّده كل يوم الخوف من فك عقد العمل.
المدرسة الواقعة في جبل طابور، وغيرها من مدارس المخيم، شيّدت على شاطئ البحر. جفّ حلق الأهالي وهم يناشدون «الأونروا» تأمين باصات لنقل الطلاب، ولكن دون جدوى. وكما هي عادات الفلسطيني في تدبير الحال، راح بعض التلاميذ يلتفون على طول الطرقات بالقفز بين ركام الأبنية المتهدمة اختصاراً للمسافات، فكان النصيب هذه المرة عثور أحد التلاميذ على قنبلة من مخلفات الحرب التي دارت بين الجيش اللبناني وتنظيم فتح الإسلام في عام 2007.
تشبه القنبلة كرة صغيرة، مثلما تراءت لابن الصف السادس، أحمد نصر سلامة، الذي داسها قبل أن يتأكد من حقيقتها، فانفجرت وبترت قدمه، بحسب زميله علي خالد ابراهيم الذي أصابته شظاياها برجليه ويده اليمنى. أما رهيف علي عوض، فقد تخيّلها مثل عبوة «الكولونيا»، وقال إن أحمد سلامة ضغط عليها فخرج منها صوت صفير خفيف ثم انفجرت. حاصل الأمر، حشرية الطلاب أو سوء إدراكهم، كان ثمنهما بضع إصابات خفيفة ومتوسطة بينهم وبين المعلمات اللواتي كنّ خلفهم بعيد خروجهم من المدرسة في 24 نيسان الجاري. نقل الجميع إلى مستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني، لكن ضعف إمكانات المستشفى، حتى بالنسبة إلى الإصابات غير الخطيرة، استدعى نقلهم إلى مستشفى الخير في بلدة المنية المجاورة.
أيام قليلة وعاد بعض الجرحى إلى منازلهم، لكن حال الأهالي لم تكن تسمح بسؤالهم عن روايات أبنائهم حول كيفية حصول الحادثة، فقد ملّوا أسئلة المحققين، وساءهم سعي مختلف الأجهزة الأمنية إلى محاولة تحميل الأولاد المسؤولية، عوض العمل الجاد لتنظيف المخيم من مخلفات الحرب. يقول والد المصاب علي ابراهيم «تصوّر أن ابني في الصف السادس ويسألونني إلى أي تنظيم ينتمي». يقول والد الطفل ذلك، مع تأكيده انصياعه التام للدولة التي «نعيش على أراضيها» مقابل كرهه الشديد لـ«عصابة فتح الإسلام التي اعتدت على الجيش اللبناني وتسببت بتدمير المخيم». ويضيف إن منزله المدمر كان يقع في المكان الذي انفجرت فيه القنبلة و«لست آسفاً على تدميره لأن شاكر العبسي كان يحتله مع أفراد من العصابة».
بدوره، لم يكن والد التلميذ رهيف عوض مكترثاً للتحقيقات، فهو لا يكاد يصدق أن ولده عاد سليماً إلى المنزل، ما خلا إصابة، يشمر رهيف عن فخذه اليسرى ليخبر عن الشظية التي اخترقت اللحم وبلغت الفخذ الأخرى. لكن الولد، كمن يدفع تهمة جرى التداول بها، نقلاً عن بعض مجريات التحقيق، وتفيد باحتمال أن تكون القنبلة جديدة، يقول إن الطبيب عمل على تنظيف الجرح أكثر من مرة لأن الشظية قديمة ومتّسخة.
يستغرق الوالد في وصف طريقة تلقيه الخبر «جاءني اتصال وأنا أعمل، ابنك انفجرت فيه القنبلة، للوهلة الأولى توقعت أنها قذيفة، أرجلي راحت تخبط ببعضها، ظننت أن ابني كان لوحده، ما كنت عارف أنو الانفجار أصاب تلاميذ المدرسة». ذهب علي عوض إلى مستشفى الخير، حيث نقل المصابون «ما تجرأت أسأل ولا سؤال، حتى لمحت الأستاذ زياد معلم الولد». اقترب عوض من مدرس ابنه وسأله «ميشان الله شو في؟»، فأجاب الأخير «ابنك والله بخير، اصعد إليه في الطابق الأول». وبخلاف والد التلميذ الجريح علي ابراهيم، لا يشكر علي عوض الدولة ولا «الأونروا» ولا أي أحد، بل هو يخرج إلى شرفة المنزل، ويشير إلى زاوية حقل ملاصق قائلاً «انظر، توجد هناك قذيفة لم تنفجر بعد». ومنذ مدة، عثر ولد، كان يحاول التقاط عش للعصافير قرب البراكسات على قذيفة «ب 7» داخل شجرة. «فأين ذهبت الملايين التي قبضتها الشركات مقابل زعمها تنظيف المخيم من الألغام والقنابل غير المنفجرة؟ وما هو دور الدولة والأونروا في محاسبتها؟» يتساءل والد رهيف.
في هذا السياق، يذكر أمين سر الفصائل الفلسطينية في مخيم البارد عماد عودة أن الدول المانحة أقرّت في مؤتمر فيينا عام 2008 دفع أكثر من مئة مليون دولار، لأجل جرف الأبنية المهدمة في ما يعرف بالمخيم الجديد، وتعويض أصحابها، صرفت الأموال ولم يقبض الفلسطينيون أي شيء منها. أما مسؤول جبهة النضال الفلسطيني أحمد عبد الرحيم فيكشف أن شركة «هاندكاب» المختصة بنزع الألغام قبضت على مدى أربع سنوات خمسة عشر مليون دولار، لكن يبدو أن «المهمة الفعلية لتلك الشركة لم تكن سوى كسب المال فقط»، لأنه بعد انقضاء السنوات الأربع المذكورة انفجر أكثر من خمسة عشر جسماً غريباً في المخيم. وبالمناسبة، يؤكد عبد الرحيم الحاجة الماسة لتطوير مستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني في المخيم، فـ«لو قدّر أن كانت الطريق مقطوعة، كما يحصل مراراً في هذه الأيام، لكان معظم المصابين في عداد القتلى».
وللتخفيف من معاناة أطفال المخيم وتجنيبهم المخاطر التي لا تزال تتربّص بهم، يطالب أهالي المخيم الدولة اللبنانية بالإفراج عن ملعب الشهداء الخمسة الذي تعود ملكيته لمنظمة التحرير الفلسطينية، ويستنكرون قيام قوى الأمن الداخلي بتبليغهم أكثر من مرة إلغاء ملعب النصر، بحجة أنه يقع في منطقة خط البترول، علماً بأن البترول وخطوطه، يتندّر أهل المخيم قائلين «ليس لها من أثر سوى في المخيم».