تدهورت حصة القطاع الصناعي اللبناني من الناتج المحلي من 12.5% عام 1997 إلى 7.5% عام 2009، عاكسة شبه غياب للسياسة الصناعية، في ظل مشاكل بنيوية عديدة أهمها سيطرة الاحتكارات على السوق المحلي الضيق أساساً، والإطار القانوني والتنظيمي غير الملائم، والتمويل الضعيف للقطاع، وسعر الصرف المنفوخ، وليس أخيراً ضعف البنى التحتية وارتفاع أكلاف الانتاج.
للصناعة في لبنان «تاريخ طويل من فرص التنمية الضائعة»، والطفرات المتفرقة التي شهدها القطاع كانت ناتجة عن «صدمات خارجية إيجابية وظروف اقتصادية مؤاتية»، ولم تكن ثمرة سياسة صناعية؛ والأخيرة وصفٌ يُطلق تجاوزاً على «بعض برامج التمويل المدعوم وعدد من الاتفاقات التجارية مع الاتحاد الأوروبي والدول العربية، وبعض المبادرات المتقطعة».

رسمت الصورة تلك ورقة سياسة أعدها «المركز اللبناني للدراسات»، دعا مؤلفاها، مدير المركز سامي عطالله والباحثة إيلينا سرور، إلى تبني سياسة صناعية «تركز على تطوير الصادرات الصناعية العالية التطور (العالية القيمة المضافة)».
بحسب التقرير يوظف القطاع 12% فقط من اليد العاملة، مقارنة بـ39% لقطاع الخدمات، و27% لقطاع التجارة؛ وكان معدل النمو الحقيقي للقطاع بين عامي 1998 و2007 نحو 12.6%، مقارنة بـ25.5% لقطاع النقل والاتصالات و14.3% للخدمات. برغم ذلك، يلقي التقرير الضوء على مؤشرات إيجابية يمكن البناء عليها لإعادة رسم الصورة القاتمة: زادت الصادرات الصناعية للفرد من 282 دولاراً عام 2000 إلى 785 دولاراً عام 2009، وارتفعت نسبة الصادرات الصناعية من إجمالي الصادرات من 37% عام 2000 إلى 57% عام 2007؛
كلفتا الكهرباء وتدريب العمالة شبه الماهرة هي الأكبر بين الأكلاف
كما زادت درجة تطور الصادرات الصناعية بنسبة 36% بين عامي 2000 و2008، يشير التقرير، لكن «لا تستطيع المؤسسات الصناعية خلق قدرات (تمكنها من إنتاج سلع جديدة عالية التطور) من دون أي تدخل حكومي، وذلك بسبب إخفاقات السوق»، يجزم التقرير، داعياً الحكومة «لتطوير توجه استراتيجي نحو التصنيع، كي تتمكن البلاد من حصد منافع الطفرات المؤقتة التي يشهدها القطاع». لتعزيز الانتاجية، يرى التقرير أولوية في الاستثمار في تدريب مهني ذي نوعية جيدة وتحسين البنى التحتية، مشيراً إلى أن المؤسسات الصناعية المستطلعة آراءؤها في مسح أجراه المركز أخيراً «كررت وشددت على أن كلفتي الكهرباء وتدريب اليد العاملة شبه الماهرة هي الأكبر من بين أكلافها».
ينقل التقرير عن منظمة العمل الدولية أن التعليم المهني والتقني في لبنان «يعاني قدم المناهج وضعف التدريب العملي بسبب قلة المعدات، وغياب معايير معادلة الشهادات»، فينجم عن ذلك صعوبة لدى «حوالى الـ50%» من اليد العاملة في إيجاد وظائف، وتكلفة إضافية على المؤسسات التي تضطر لتدريب هؤلاء. وعن البنى التحتية، يقول التقرير ببساطة إن «أي صناعي لن يستثمر في مناطق حيث لا تتوافر الكهرباء أو شبكة مواصلات» بنوعية ملائمة. «الإبداع يقع في صلب عملية التنمية الإقتصادية»، يقول التقرير، داعياً الحكومة إلى تشجيع وتسهيل التعاون بين القطاع الخاص والجامعات أو مراكز البحوث، وأيضاً إلى العمل على تأمين التمويل المحلي والأجنبي لنشاطات البحث والتطوير، وذلك في سبيل دعم الإبداع التكنولوجي. يدعو التقرير الحكومة «إلى فرض معايير وشهادات الإنتاج، وعقد اتفاقات تجارية أكثر ملاءمة» لمصلحة الإنتاج الصناعي المحلي، كما يدعو إلى إصلاح إدارة الجمارك ومكافحة الرشوى، وذلك لخفض كلفة التصدير.
لكن وضع السياسات الرشيدة ليس رهن سداد الرأي والمشورة، بل هو حاصل ميزان القوى الاجتماعية وصراع المصالح والإرادات؛ ويلاحظ التقرير هنا أن «المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هي العمود الفقري للقطاع الصناعي اللبناني»، وعلى الرغم من ذلك، يمثل مالكو هذه المؤسسات «مجموعة من المواطنين غائبة عن عملية صنع السياسات والقوانين والتنظيمات التي من شأنها دفع التنمية الاقتصادية والاجتماعية»!