منذ أقرّ مجلس الوزراء عام 2022 إستراتيجية التحوّل الرقمي (2023 - 2030)، لم يُفرِج الفريق الذي تتعاون معه وزيرة التنمية الإدارية نجلا رياشي عن الخطة التنفيذية للإستراتيجية، بذريعة أنّ ما أُقرّ هو «إستراتيجية إطار» فقط، وينبغي إنشاء جهة رسمية (هيئة مثلاً) لتضع الخطة التنفيذية. مرّ عامان، ولم تبصر الهيئة النور، وبقيت الإستراتيجية حبراً على ورق، إلى أن قدّمت رياشي إلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مشروع قانون «الإطار التنظيمي للتحوّل الرقمي»، الذي وزّع على الوزراء الخمسة الذين تتشكّل منهم «لجنة متابعة التنفيذ لمشروع التحوّل الرقمي في إدارات الدولة». وكان يفترض أن يعرض ميقاتي المشروع على مجلس الوزراء فور انتهاء اللجنة من وضع ملاحظاتها عليه، غير أنه أرجأ ذلك بسبب «استياء وزير العدل هنري خوري من تقديم رياشي لمشروع القانون»، وفقاً لمصادر متابعة تشير إلى «رغبة خوري في سحب الملف من رياشي، وجعل وزارة العدل هي المعنية بمأسسة التحوّل الرقمي وتنظيمه، لا وزارة التنمية الإدارية، على غرار ما حصل في ملف الأسناد الإلكترونية ومن ضمنه التوقيع الإلكتروني». وأوضحت أنّ «الصراع» سببه أن الوزارة التي ستهتم بملف التحوّل الرقمي، ستسعى إلى عقد مشاريع مع الجهات المانحة، عن طريق الهبات أو المساهمات أو القروض، لتوفير التمويل اللازم لتأمين البنى التحتية الرقمية (أجهزة...) وكذلك على تمويل البرمجة والتدريب.
وفي هذا الصدد، علمت «الأخبار» أنّ رياشي، «تسعى لدى ميقاتي إلى نيل موافقة مجلس الوزراء على دعم من البنك الدولي لوزارة التنمية الإدارية بقيمة ثلاثة ملايين دولار للسير في تنفيذ إستراتيجية التحول الرقمي»، وهو ما كان موضع نقاش في جلسة لجنة التكنولوجيا النيابية التي حضرتها رياشي الأسبوع الفائت.
ومعلوم أنّ ملف التحوّل الرقمي موكل إلى وزارة التنمية الإدارية، وبُدئ العمل عليه منذ أيام الوزير السابق محمد فنيش، ولذا إن تقديم رياشي لاقتراحات مشاريع هو ضمن السياق الطبيعي لاستمرارية عمل من سبقها، فيما تعدّ وزارة العدل طارئة على الملف، وهي وزارة عضو في لجنة متابعة التنفيذ للخطة. لكن ذلك لا يُلغي المشكلة الأساسية الكامنة، في رأي قانونيين، في «عدم جواز إسناد ملف سيادي وضخم كالتحوّل الرقمي إلى وزير دولة لم يمنحه الدستور صلاحيات، ولا يمكنه ممارسة سلطة على بقية الوزارات، ولا جهاز تنفيذياً لديه، وقد لا يكون له وجود في حكومات أخرى»، وهو ما يفسّر الوجود الدائم لموظفين تابعين لوكالة الأمم المتحدة للتنمية داخل الوزارة، حتى باتوا هم المتحكمين فيها.
مشروع يشرّع الفوضى
مشروع قانون «الإطار التنظيمي للتحوّل الرقمي» الذي قدّمته رياشي هو عبارة عن تنظيم أوضاع إدارية داخل الوزارات والمؤسسات، كإنشاء مديرياتٍ تُعنى بالتحوّل الرقمي، ولجنة وزارية لدعم خطة التحوّل الرقمي ومراقبتها وتحديد الأولويات والميزانية... إلخ، ولجنة فنّية تضم الإدارات والمؤسسات العامة والهيئات الإدارية المستقلة وهيئات رقابية، وتتولى ضمان تأمين التمويل، تحديد المخاطر، توفير الدعم التنفيذي لبرامج التحول الرقمي... إلخ، إضافة إلى إنشاء «الهيئة الوطنية للتحوّل الرقمي» (NOAT)، على أن تكون تابعة لوزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية، وتخضع لرقابة ديوان المحاسبة اللاحقة، وتوكل إليها مُتابعة تنفيذ الإستراتيجية الرقمية على المستوى المركزي وعلى مستوى وحدات التحوّل الرقمي في الإدارات والمؤسسات العامة، ووضع الخطط التنفيذية للإستراتيجية، وإدارة مراكز البيانات إلخ...
بعد عامين من إقرار إستراتيجية التحوّل الرقمي، يأتي مشروع القانون ليثبت مرةً جديدة أن السلطة تمتهن تكديس القوانين وتفريخ اللجان، مع انفصالٍ تام عن الاحتياجات الحقيقية. إذ يؤكد خبراء في هذا المجال أن إقامة إطارٍ تنظيمي عملي للتحوّل الرقمي، «يكفيه إنشاء الهيئة من دون الحاجة إلى اللجنتين الوزارية والفنية، وابتداع مناصب جديدة لن تبقى بمنأى عن المحاصصة». ويلفت هؤلاء إلى أنّ الأساس هو إقامة «ورشة تنظيمية جدّية تبدأ داخل الوزارات والمؤسسات، إذ تحدّد كل إدارة مسالك العمل فيها وترسم المعاملات الإلكترونية وفقاً لتلك المسارات، وبناء عليه تُحدّد الاحتياجات التقنية لكل إدارة ومؤسسة».
مشروع قانون يتيح التعاقد مع «جهات خارجية» بما يتناقض مع مبدأ السيادة الرقمية


كما يرد في مشروع القانون ما مفاده أنّ من مسؤوليات الهيئة الوطنية للتحوّل الرقمي إجراء عقود مع «جهات الاستضافة الوطنية والخارجية». علماً أنّ «إستراتيجية التحوّل الرقمي» نفسها، تشدّد على مبدأ السيادة الرقمية، وهذا يفرض، وفقاً للخبراء، أن «تكون جهات الاستضافة جميعها وطنية، عبر جعل الخوادم ومركز البيانات في لبنان وتحت سيادة المؤسّسات الرسمية، وأن تمتلك الدولة البرامج والتطبيقات ومفاتيح البرمجة، مع إيلاء أولوية للإنتاج الرقمي المحلي». إذ إن «من يطوّر البرامج ويبرمج قاعدة البيانات يستطيع الولوج إلى البرامج والداتا ولو كانت محفوظة في لبنان».
مشروع القانون يشير إلى استمرار التعامل بخفّة مع التحوّل الرقمي والأمن السيبراني، كما بدا واضحاً في الموازنة العامة التي شُطبت منها المبالغ المطلوب إنفاقها في هذين المجالين، ليبقى التعويل على تمويلات خارجية تسدّ النقص في هذين القطاعين المرتبطين بالأمن القومي.