ثمة تعبير يُستخدم بين المتعاملين بالأسواق المالية عندما يتجمّد سعر سهم أو سند أو أي أداة مالية أخرى بأنها انتقلت إلى مرحلة «الصدأ» أو الموت البطيء. يقلقهم ذلك، فبنتيجة تجمّد السعر، لا تعود هذه «البضاعة» صالحة للعرض والطلب، بل تصبح عرضة للتآكل والاهتراء. هذا ما يصيب اقتصاد لبنان، إذ يتآكل ما تبقّى من موارده بعد الانهيار. لكن لا يمكن معاينة التآكل عبر مؤشرات كلاسيكية مثل معدلات نموّ الناتج المحلي، بل يجب النظر إلى مجموعة من المؤشرات الأخرى مثل الاستثمار، البطالة، الهجرة...بحسب المؤشرات الكلاسيكية، فإنه لولا الحرب على غزّة لكان اقتصاد لبنان قد سجّل نموّاً بمعدل 1.5% في عام 2023. لكن الواقع أن هذا المعدل لا يلحظ أثر التآكل؛ فأحد أهم دوافع النمو في الاقتصادات النامية، أي الاستثمار العام والخاص، تضاءل ليصبح شبه معدوم مسجّلاً 0.9% من الناتج المحلّي الإجمالي في عام 2023. توقعات النموّ، وبعض ما يُرى بالعين من نشاط في قطاعات محدودة ليس سوى نموّ وهمي يعتمد على تدفقات الأموال من تحويلات ومساعدات تتجه نحو الاستهلاك. ولا أهمية لأي نموّ في ظل ارتفاع نسب البطالة إلى 23% في عام 2023 بحسب البنك الدولي. كذلك تنطوي هجرة الأسر والشباب على تآكل هائل في الموارد البشرية.

(مروان بوحيدر)

الواقع، إن حالة التآكل نتجت من غياب تام لأي إستراتيجية متصلة بمسألتين: توزيع الخسائر، «أي اقتصاد نريد». وكلاهما مرتبطان جداً بضرورة تنفيذ «إصلاحات» عميقة في بنية الاقتصاد السياسي. وهذه الإصلاحات تختلف عن تلك «الإصلاحات المالية» التي يتركّز الحديث عنها منذ سنوات. فما تسعى إليه الحكومة بالتعاون مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، متعلق بتجميل المؤشرات المالية، مثل عجز الموازنة واستدامة الدين... لكنّ الواقع أن «الصدأ» بدأ ينال من لبنان بسبب جمود الاقتصاد وتوقف عجلته عن الدوران. وهذه مشكلة فعلية عند الحديث عن مرحلة ما بعد «تشغيل العجلة»، إذ يُصبح التخلّص من «الصدأ» أمراً صعباً جداً. عملياً هذا التوقف هو نتيجة سياسات الحياد السلبي تجاه الأزمة التي تنتهجها الحكومة بكل سلطاتها وفقاً لمبادئ الاقتصاد الرأسمالي التي تشير إلى أن الأسواق تعمل بكفاءة مثلى في غياب أي تدخّل حكومي، وأن قوى العرض والطلب تسمح بتعديل مناسب لمستويات الأسعار والأجور عبر «اليد الخفيّة». وهذا الأمر ليس جديداً على لبنان، إذ بنيت سياساته على عقيدة عدم التدخّل التي يشير إليها بوضوح الباحث هشام صفي الدين في كتابه «دولة المصارف»: «في الخطاب العام في فترة التأسيس، كانت سياسات إلغاء القيود التنظيمية مغطاة بأيديولوجية عدم التدخل التي تبنّاها ميشال شيحا، والتي عملت على تطبيع الهوس باستقرار الأسعار على حساب النمو الاقتصادي المتوازن». وبحسب صفي الدين أيضاً «استعانت المصارف تاريخياً بأدبيات شيحا التي تتحدث عن الفرادة اللبنانية، وحب اللبنانيين للتجارة والحرية وما ينبثق عن هذا من رغبة في الحفاظ على تدفق رؤوس الأموال من دون تدخل أو تنظيم من الدولة».
ومن بين هذه المبادئ «دعه يعمل دعه يمرّ» أو سياسة عدم التدخل، التي تمثّل سياسة الحد الأدنى من التدخّل الحكومي في الشؤون الاقتصادية للأفراد والمجتمع. بمعنى أن لا تقوم الدولة بالتدخل في الاقتصاد، وتتركه يسير بشكل طبيعي. أصل المصطلح غير مؤكد، لكن بعض القصص تشير إلى أنه مشتق من الإجابة التي تلقاها جان بابتيست كولبير، المراقب المالي العام في عهد الملك لويس الرابع عشر ملك فرنسا، عندما سأل الصناعيين عما يمكن أن تفعله الحكومة لمساعدة الشركات: «اتركونا وشأننا». عادة ما يرتبط مبدأ عدم التدخل بالاقتصاديين المعروفين باسم الفيزيوقراطيين، الذين ازدهروا في فرنسا من عام 1756 إلى عام 1778 تقريباً. وقد أخذ مبدأ عدم التدخّل حيّزاً في الاقتصاد الكلاسيكي، كما تلقّى دفعةً كبيرة مع انتشار العقيدة النيوليبرالية في الربع الأخير من القرن العشرين التي عملت بالمبدأ وطبّقته على النظام العالمي.
بحسب أرقام البنك الدولي ارتفعت معدلات البطالة في عام 2023 إلى 23%


في الوضع اللبناني الراهن، خرجت سياسة عدم التدخّل عن سياقها الأيديولوجي، ودخلت في سياق مزيج من الخمول والخوف من التدخّل، وهو نابع من الخوف من تحمّل المسؤولية أصلاً. والمشكلة لا تقف هنا، بل تتعلّق أيضاً بالمرحلة القادمة، إذ لا يمكن التخلّص من الركود والصدأ الذي يليه، بسهولة. كلما طالت هذه المدة، صارت نتائجها أعمق، إذ سيكون لدينا طبقة من العمّال الذين توقفوا عن العمل لمدة طويلة، ما ينعكس على إنتاجية هؤلاء في حال أصبح لديهم فرص وظيفية مستقبلاً. التوقف عن العمل لمدد طويلة يسهم في خسارة المهارات، ولو جزئياً، والأخطر أن ذلك يأتي في سياق تطوّر سريع في تطبيق استخدامات التكنولوجيا في الاقتصاد، وأحدث الأمثلة هو «الذكاء الاصطناعي»، وهو ما تخافه القوى العاملة في العالم كله بما فيه الاقتصادات المتقدمة. كما أن البيئة الحالية، التي تشكّل عقبة للاستثمار، أبعدت الكثير من رؤوس الأموال المحلية التي ذهبت للاستثمار في الخارج، وإعادة هذه الرساميل ليس أمراً سهلاً أيضاً. كما أن الفرص الضائعة، التي تتعلّق بانخفاض كلفة الإنتاج في لبنان (وهو الأمر الذي لم يدم طويلاً) عقب الأزمة، لا يمكن استعادتها بسهولة، إذ قدّمت الأزمة فرصة عبر ارتفاع القدرة الشرائية للدولار في البلد في السنوات القليلة التي تلتها.