في 26 نيسان 2005، أقفلت مجدل عنجر الباب خلف آخر جندي سوري على أثر قرار الدولة السورية سحب جيشها من لبنان بعد انتشار دام 29 عاماً. بعد ستة أعوام، استقبلت البلدة البقاعية مئات آلاف السوريين بصفة نازحين، هاربين من الحرب. بعضهم اتخذها مستقراً، وآخرون اتخذوها معبراً. ما بين الزمنين، بقيت «المجدل» التي يقع معبر المصنع الحدودي في نطاقها، ملتصقة بالسوريين في السرّاء والضرّاء. كثر يتخذونها نموذجاً للمجتمع اللبناني الذي يمارس ازدواجية في مقاربته السورية؛ ما بين المنفعة من الجيش والنازحين وما بين كسر الجرة خلف الآليات المنسحبة والمطالبة بتفعيل العودة.
باللبناني أو بالسوري؟
من دون أن تنظر إلى وجه الشاري، تسأل مريم يوسف: «باللبناني أو السوري؟»، في إشارة إلى نوع العملة التي ينوي دفعها. يشكل متجرها الواقع في سوق معبر المصنع في خراج مجدل عنجر، معبراً للزوار اللبنانيين المتوجهين إلى سوريا، وللسوريين العائدين. لذلك، اعتاد أصحاب المتجر على التعامل بالليرة السورية حتى في زمن تدنّي قيمتها في مقابل الليرة اللبنانية.
في زمن العزّ، عرف صندوق المتجر الذي افتتحه أهل زوجها، بسام يوسف، في الثمانينيات، أنواعاً عدة من العملات، من الدينار والريال والدرهم والتومان... الفارق أخيراً أنهم باتوا يسارعون إلى استبدال العملات، حتى الليرة اللبنانية، بالدولار الأميركي. الفارق أيضاً في أنواع المشتريات. «سابقاً كان السوري يشتري الحاجات التموينية إضافة إلى الشوكولا والبسكويت... بعد الأزمة وانهيار العملة، اقتصر التبضّع على الزيت والأرز والسكر والسجائر والمعسل». وفي زمن العزّ أيضاً، كانت الحركة البرية نشطة بين لبنان والأردن والعراق ودول الخليج مع السياح والتجار وأصحاب شركات الاستيراد والتصدير.

مراحل متناقضة
منذ التزامها بإدارة المتجر مع زوجها عام 1988، تصنّف مريم المراحل المتناقضة التي عايشتها، لكن بقي السوري فيها قاسماً مشتركاً: «قبل 2005، كان الجنود والعمّال زبائنَ أساسيين، إضافة إلى العابرين. في إجازاتهم، كانوا يشترون بضائع لم تكن متوافرة في بلدهم بسبب الحصار. أما الزوّار، فقد كان موعدهم الأسبوعي يوم الجمعة، ينزلون إلى زحلة بشكل خاص، لتمضية يوم العطلة في المطاعم والملاهي قبل أن يشتروا حاجاتهم في طريق العودة». بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وما تبعه من انسحاب للجيش السوري، تقلّصت الحركة، وخصوصاً بعدما تعرّض العمّال السوريون للاعتداءات كردّ فعل ضدهم.
على نحو تدريجي، استعاد المعبر زواره الاختياريين أو الإجباريين الذين يعتمدون على مرفأ بيروت للاستيراد، أو يصدّرون منتجات من السوق المحلي. مكاتب التخليص الجمركي وتسجيل الآليات التي تزدحم في ساحة المعبر، ظلّت نشطة حتى بداية الحرب السورية، وتعليق حركة مرور الشاحنات عبر سوريا إلى الأردن والعراق ودول الخليج. البطالة القسرية التي عاشتها تلك المكاتب قابلها ازدهار في محالّ تجارية استفادت من جحافل النازحين التي عبرت. فندق الأمراء الذي كان نزلاً للزوار، قُسم شققاً للنازحين. القرارات اللبنانية المستجدة أسهمت في تنشيط الحركة، منها السماح بمرور سيارات الأجرة السورية واستخدام السوريين لمرفأ بيروت.
بالنسبة إلى مريم، لم تتأثر الحاجات المتبادلة بين البلدين بالمتغيرات الهائلة التي حصلت. «نعرفهم منذ أن نشأنا بحكم الجيرة التي فرضت اندماجاً تجارياً واجتماعياً. صهر زوجها سوري. فكثير من أهالي المجدل تزوّجوا سوريين وسوريات. عرفناهم جيشاً حاكماً، كما عرفناهم تجاراً وسياحاً قبل أن نعرفهم نازحين مشرّدين في البداية ثم أصحاب محال وأرباب عمل». لذلك، لا تهتم مريم بالحملات الداعية إلى ترحيل النازحين. «في حال عادوا نازحين، سيعودون زواراً وعمالاً. نحن لا نستطيع العيش من دونهم وهم كذلك. المتذمّرون منهم لن يكونوا من أبناء البلدات الحدودية الملاصقة لسوريا».
المصالح الضيقة لبعض أبناء مجدل عنجر لا تبدّد الأزمة العامة التي تعيشها بسبب اكتظاظ النازحين. وفي مقابل التظاهرات المناصرة لـ«الثورة السورية» التي كانت تُنظم على طريق المصنع في بدايات الأزمة، تتصاعد أخيراً الحملات الداعية لعودتهم. يدرك كثير من أبناء المجدل بأنهم دفعوا ثمن إيوائهم اللامحدود للنازحين ودعمهم لـ«الثورة»، وترافق الأمر مع شبهة إرهابية وصمت البلدة برمّتها بسبب انخراط البعض في التنظيمات الإسلامية المتشددة وإيواء قيادات من جبهة النصرة وداعش.

البلدية: علاقة تاريخية
في حديثه لـ«الأخبار»، يشير رئيس البلدية سعيد ياسين إلى أن مجدل عنجر «استقبلت النازحين من دون تفكير، فهي بوابة لبنان إلى العالم العربي». ويذكّر بأن الحكومة اللبنانية منعت دخول النازحين لأيام، فتجمّعوا في المجدل التي فتحت لهم المدارس والمساجد والأزهر. لا يخفي أن العلاقة التاريخية مع السوريين «حتّمت علينا الوفاء في أيامهم الصعبة». يستعرض فصولاً من أيام العز التي عاشها أبناء البلدة، منها ارتفاع بدل إيجار المحل ما بين عامي 1990 و2005، إلى أكثر من ألف دولار شهرياً. مجاورتهم لمقرات قيادات الجيش السوري في عنجر، جعلت أبناء المجدل «يفكون مشانق ولديهم حظوة كبيرة لدى الضباط والمسؤولين السوريين. ولو أنهم اهتموا بالسياسة، لأصبحوا وزراء ونواباً ورؤساء، لكنهم تلهّوا بالتجارة».
المتذمّرون من السوريين لن يكونوا من أبناء البلدات الحدودية

يحفظ ياسين عن ظهر قلب البلدات السورية في المقلب الآخر. «وجهتنا للتبضع والترفيه والتعليم كانت الشام وليس بيروت. كنا نحظى بخط عسكري عند المعبر يعفينا من الانتظار في الطابور للمرور. كأننا نتنقّل بين بلدة وأخرى في السهل، كنا ننتقل إلى مضايا والزبداني وكفر يابوس والكفيل لحضور حفل زفاف أو زيارة مريض».

عبء النزوح
في عام 2015، بدأت مجدل عنجر تشعر بعبء النزوح. مع هدوء المعارك في سوريا لصالح النظام، تنبّه أهالي المجدل إلى أن النازحين باتوا مجتمعاً مستقلاً ومنغلقاً على نفسه اجتماعياً واقتصادياً. عددياً، كانت إحصاءات بلدية المجدل عام 2013، تشير إلى وجود 12 ألف نازح في مقابل 20 ألف لبناني. بعد مرور عشر سنوات، صار النازحون حوالي 33 ألفاً واللبنانيون 25 ألفاً، بحسب ياسين. يقرّ بأن أبناءها استفادوا من النازحين. هناك ألفا شقة سكنية مؤجّرة، إضافة إلى عمل محطات الوقود ومحال الصرافة وأصحاب المحال. في المقابل، الضغط هائل على البنى التحتية والمنافسة ليست لصالح العامل وصاحب المحل اللبناني. «السوري يشتري من السوري واللبناني يشتري من السوري لأن بضاعته أرخص. ربّ العمل اللبناني يستعين بالعامل السوري لأن أجرته أرخص».
منذ توليه رئاسة البلدية عام 2016، أصدر ياسين قرارات عدة «تنظم النزوح، منها حصر التجول في أوقات محددة وملاحقة المخلّين بالأمن وطردهم خارج البلدة». مع ذلك، لم تكف تلك القرارات. «المطلوب الآن العمل على الترحيل الطوعي لمن يستطيع العودة إلى بلداته الآمنة مع تلقيه ضمانات بعدم التعرض له من النظام».