دمشق | داخل نقطة المصنع الحدودية، يصرخ الرجل ذو اللهجة السورية بأعلى صوته، بوجوه أشخاص يتكلمون بلهجة لبنانية. لا يكترث لوجود عناصر الأمن العام. يطلق شتائمه ضد اللبنانيين الذين يتجاوزون الدور في الطابور المصطفّ أمام العنصر الجالس وحده بين أكثر من عشرة حواسيب لتسجيل حركة الدخول إلى لبنان. عصبية السوري، لا تستثني العنصر الأمني نفسه ودولته من خلفه. يتلو سردية ردّدها معه مواطنوه المنتظرون، عن «الفوضى اللبنانية وقلة ذوق هذا الشعب». تنبري سيدة لبنانية للرد بالمثل، على شتائم السوري. «بعد ناقص... مش الحق عليكم، الحق علينا نحن». لا يبدي العنصر الأمني أيّ رد فعل، كأنه مشهد يومي اعتيادي. لكنه بعد أكثر من ساعة على تذمّر اللبنانيين والسوريين معاً من «سوء الخدمة وطول الانتظار»، يتساءل: «هل تتجرأون على التأفف في المعبر السوري؟». قبل نقطة المصنع، كانت هذه الحشود قد مرّت على نقطة جديدة يابوس السورية. أكثر من عنصر أمني جلسوا خلف العازل لختم بطاقات العابرين. الوجوم يعلو وجوه الجميع. لا شعورياً، يحبس السوري واللبناني أنفاسهما قبل الدخول. فالجميع لا يزال تحت تأثير النظام الأمني «الذي لا مكان فيه لحرية الرأي والفوضى اللبنانية». بعد الابتعاد عن النقطة، يتهامس العابرون عن «تجاوزات خفية يسمح بها العسكري السوري في ظلّ الحصار الاقتصادي المطبق على بلده». تجاوزات تصبح أكثر علانية كلما توغل الباص باتجاه دمشق. الرشوة، أو «الإكرامية»، اعتيادية عند حواجز التفتيش المتتالية التي يمرّ بها الباص اللبناني باتجاه دمشق، باختلاف مرجعياتها العسكرية والأمنية. على نحو مسبق، يجهز السائق هدايا الحواجز بحسب ما يطلبه العناصر على مسمع الركاب. منهم من يكتفي بأوراق المال التي يدسّها في يده بشكل خاطف. ومنهم من يرفض المال ويطلب ربطة خبز. أما بعض العسكر النافذين، فقد عقدوا اتفاقيات مع بعض السائقين لتنظيم تجارة رابحة، أبرزها البنزين والغازّ الحر أي المهرب. ومصطلح الحرّ سورياً مرادف للسوق السوداء اللبنانية. السوق السورية السوداء مزدهرة وبشكل علني. بعد اجتياز الحدود نحو سوريا، تصطف بسطات «الغالونات» الصفراء على جانبي الطريق.

غضّ النظر
«الدولة غاضّة النظر»، يقول سائق الأجرة السوري. هي أيضاً تغضّ النظر عن عمله «على التكاسي» خارج دوام خدمته في الجيش العربي السوري. «كثير من زملائي دبّروا أشغالاً إضافية. راتبي يبلغ حوالي 100 ألف ليرة سورية، لا تكفي حتى للأكل والشرب». رغم الحرب والحصار، منذ عام 2011، لا تزال الدولة تحافظ على نظام الدعم للسلع الأساسية «إلا أنه لا يكفي. وهذا طبيعي. الكمية محدودة والطلب كبير». بحسب العسكري، يحصل صاحب البطاقة التموينية المدعومة على جرة غاز واحدة بحجم 17 كيلوغراماً شهرياً، بسعر حوالي 13 ألف ليرة سورية. «في غالب الأحيان، لا تصمد الجرة حتى آخر الشهر. البعض يستبدلها بالحطب لأغراض مثل التدفئة وتسخين مياه الاستحمام، والمقتدرون يبحثون عنها في السوق السوداء حيث لا يقلّ سعرها عن 30 ألفاً». الأمر يتكرّر في مادتي البنزين والمازوت. «أصحاب البطاقة يشترون التنكة المدعومة من الدولة كلّ 15 يوماً، بسعة 25 ليتراً بـ75 ألف ليرة. أما البنزين الحرّ أو المهرّب، فمتوافر يومياً، بسعر 200 ألف ليرة للتنكة الواحدة». ويلفت العسكري إلى أن أصحاب السيارات الخاصة مستثنون من بطاقة الدعم للوقود «تعتبر الدولة أن من يملك سيارة خاصة، ليس محتاجاً بقدر حاجة السائقين العموميين ومن تقوم أشغالهم على استهلاك الوقود». طوابير السيارات الصفراء والخاصة ممتدّة أمام (الكازيات) أو محطات الوقود. على غرار طوابير السيارات إبان أزمة البنزين اللبنانية، ينتظر أصحابها ساعات طويلة وليس شرطاً أن يحصلوا على طلبهم بعد الانتظار الطويل، بسبب نفاد الكمية.
الكثير من الزوّار اللبنانيين لم يعودوا يجدون طلباتهم في الصيدليات السورية


السيناريو اللبناني يتكرّر هنا في السلع الرئيسية. الأدوية علقت في براثن السوق السوداء. كثير من الزوار اللبنانيين لا يجدون طلباتهم في الصيدليات. فيما أسعارها ارتفعت بنحو 80%. وبعدما كان اللبنانيون يتاجرون بالأدوية السورية عبر الحدود، صار السوق المحلي السوري يعتمد على الأدوية المهرّبة من لبنان وبأسعار مرتفعة. يربط بعض أصحاب الصيدليات سبب أزمة الأدوية بـ«ضرب معامل تصنيع أدوية ضخمة خلال الحرب، فيما أُقفلت معامل أخرى بسبب ارتفاع أسعار المواد الأولية أو فقدانها». ربطة الخبز أكثر مادة أساسية أفلتت إلى حد ما من براثن السوق السوداء. يبلغ سعر الربطة الرسمي حوالي ألف ليرة سورية، وفي السوق السوداء لا يزيد السعر عن ألف و500 ليرة.

السوري أفضل من الصيني
على الرغم من ذلك، لم تتوقف حركة التجارة بين البلدين وإن لمس اللبنانيون أزمة الإنتاج التي ضربت قطاعات عدة خلال الحرب. فئة كبيرة منهم كانت تعتمد على السوق السورية لتأمين بضاعتها من النجارة إلى الألبسة والشوكولا. كثير من المعامل أقفلت أبوابها، ليس بسبب القصف والتخريب فقط، بل بسبب ارتفاع كلفة الصناعة والضرائب المستجدة. أحد أصحاب المحال يتحدّث عن معمل ضخم للسيراميك، انتقل إلى مصر. «من هناك، صار يصدّر منتجاته إلى كلّ دول العالم من دون "فيتو" وأصبح بإمكانه الاستيراد. وهو ما كان محظوراً في سوريا».
أزمة الإنتاج انعكست على غلاء أسعار البضائع، في حال توافرت. سلوى لم تقلع عن عادتها بالانتقال كلّ يوم أحد إلى دمشق لشراء الألبسة ومستحضرات التجميل والبُرَك والسمبوسك وغيرها من المعجنات السورية، لتبيعها في منزلها في صيدا. «بعدا بتوفّي معك؟» سألتها زميلتها في الرحلة. «أبداً. أسعار البضاعة غالية جداً من المصدر. لكن مهما استفحل الغلاء في سوريا، يظل أرخص من لبنان». بهاء لا يزال يشتري بضاعته من سوق الحميدية لتموين محل العطورات الذي يملكه في سوق صيدا. «قبل سنوات، كان الرخص هو العامل الرئيسي الذي دفعني إلى التجار السوريين. ورغم غلاء الأسعار اليوم، لم أبدلهم بالسوق اللبناني. هنا في أسواق دمشق وبرغم الحرب لا أزال أجد من يصنع يدوياً العطورات والصابون ومستحضرات التجميل الطبيعية. بينما في لبنان، صار كلّه صينياً وغالياً».
في المبادلات مع التجار، يعتمد بهاء وسلوى على التسعير بالدولار الأميركي. لكنهما لا يدفعان العملة الخضراء لا في السرّ ولا في العلن، بل يُجبران على التعامل بالليرة السورية بما يوازي سعر صرفها أمام الدولار الذي يشهد في الآونة الأخيرة استقراراً نسبياً. يحسم التاجر معهما الأمر. «أتعرض للحبس إذا قبضت منكما الدولار». يعتبر كثر أن «التشدّد الذي فرضته الدولة هو ما حمى العملة الوطنية بخلاف أداء المصرف المركزي اللبناني. وبالمقارنة مع الليرة اللبنانية، فإن الانهيار في الشام كان أقل وطأة طوال الأعوام الـ12 الماضية» قال التاجر.