بيّنت الهزات الأرضية التي ضربت المنطقة، ضعف الإطار العلمي المواكب، كذلك انعدام الاستعداد الرسمي والأهلي لهكذا أنواع من الكوارث. ومع أن مواعيد الكوارث الزلزالية متباعدة بالزمن، كما أنها غير مؤكّدة، هناك أنواع من الكوارث المناخية باتت أمراً واقعاً ولا تقلّ خطورة لناحية الأضرار. بالإضافة إلى ضعف الدول في التعامل مع الكوارث على أنواعها، ظهر أيضاً ضعف المواكبة الإعلامية التي ضاعت بين أن تواكب، أو أن تطمئن، أو أن تزيد المشهدية إثارة، طمعاً باستجلاب نسب متابعة أعلى. كما ظهر ضعف التخصّص الإعلامي المواكب الذي كان يعظّم الأشياء الصغيرة ولا يعرف التعامل مع الكوارث الكبرى من زلزالية أو مناخية أو صحية.
على العموم ستصبح المظاهر المناخية المتطرّفة، من ارتفاع درجات حرارة الأرض وفيضانات وجفاف وأمراض جديدة… جزءاً من طبيعة الحياة القادمة التي ستعرفها البشرية ويفترض أن تتعايش معها، وأن تعمل على عدم مفاقمتها. فكيف يمكن مقاربتها بأفضل السبل الممكنة، وتحاشي هذه الفوضى التي حصلت في كيفية مواجهتها والتي بدت أنها بحدّ ذاتها كارثية أيضاً؟
المقاربة يجب أن تبدأ أولاً عند المسؤولين عن إنتاج الجانب العلمي. فهم عليهم أولاً، لأسباب علمية ومعرفية ومنهجية وقضائية لاحقاً، التمييز بين الكوارث الطبيعية وتلك المناخية، وطرق تفسيرها وتصنيفها… وكيفية تجنبها إذا أمكن. صحيح أن الكوارث الطبيعية (بالنسبة إلى النوع الإنساني) كانت موجودة مع تاريخ الأرض ومع تاريخ الإنسان، ولا سيما تلك المتعلقة بالزلازل والهزّات والبراكين والعواصف… ولكن ما كان على الإنسان إلا أن يتكيّف معها ويتجنبها عبر احترام قوانين الطبيعة، بدل تحدّيها. أما حول غير أنواع من الكوارث، ومنها المناخية، فهي باتت تُصنّف "كوارث إنسانية" بسبب سوء تعامل الإنسان مع الطبيعة وتجاوز قوانينها. فالعمران على مجاري الأنهر، أو القريب جداً من الشاطئ، بالإضافة إلى كونه بمثابة اعتداء على الأملاك العامة، هو أيضاً يشكل اعتداء على النظم الإيكولوجية، وأن طوفان النهر الذي يمكن أن يكون مدمراً لهذه المنشآت على ضفافه، أو اشتداد قوة موج البحر بسبب تغيّر المناخ أو بسبب "تسونامي"، لا يُعتبر كارثة طبيعية بل إنسانية. وهذا ينطبق على كوارث التسرّب النفطي وانهيار السدود الكبيرة (أو تسبّبها بتخريب النظم الإيكولوجية والصحية) وحرائق الغابات التي هي في معظمها مفتعَلة وإنسانية. وهكذا يمكن تفسير أكبر تلوّث نفطي، الذي حصل إثر عدوان تموز عام 2006 بعد انسكاب 15 ألف طن من مادة الفيول أويل على الشاطئ اللبناني بسبب القصف الإسرائيلي لأحد خزانات محطة الجية الكهربائية، أن سبب انتشار الكارثة ناجم عن العدوان أولاً، من جهة، وعن عجز الدولة اللبنانية عن التعامل معها من جهة أخرى، حتى وصل التلوّث النفطي إلى الشاطئ السوري في منطقة طرطوس أيضاً. فكيف سيكون الحال إذا حصلت كوارث نفطية أثناء النقل والتفريغ أو أثناء التنقيب والاستخراج في حال حصل انفجار أو تسرب من بئر غاز أو نفط في عرض البحر بعد أن توجّه لبنان إلى التنقيب عن النفط والغاز في مياهه؟ وما هي الاستعدادات للتعامل مع هكذا أنواع من الكوارث المحتملة جداً لأن التنقيب والاستخراج سيكونان في أعماق بعيدة في البحر يصعب التحكم فيها؟!
ثم إن تصنيف الكوارث وتحديدها مهم جداً لناحية وضع الخطط العامة والخاصة وتحضير التجهيزات اللازمة للمعالجة والقيام بتدريبات خاصة لفرق متخصّصة. فمتطلبات معالجة حريق غابة تختلف تماماً عن معالجة حريق في مسكن أو متجر في المدينة، لناحية المعدات اللازمة والتدريبات الخاصة. كذلك الأمر بالنسبة إلى عمليات الإنقاذ من زلزال أو من فيضانات. كما أن التمييز بين كارثة إنسانية وأخرى طبيعية، سيكون مهماً جداً عند تحميل المسؤوليات تمهيداً للتقاضي ورفع الدعاوى القضائية وطلب التعويضات... وهذا يحتّم ضرورة الاستعداد عبر استحداث اختصاصات جديدة وتخصّصات دقيقة، إن لناحية تخصص القضاة أو تخصص المحامين أو لناحية تخصص الخبراء المحلّفين في المحاكم. وهذا ما يشجّع أيضاً على استحداث تخصّصات جديدة في الجامعات ومعاهد التعليم والأبحاث.
في السياق ذاته تعهّدت الأمم المتحدة العام الماضي بأن تصل إلى كل إنسان المعلومات والإنذار المبكر بحصول كوارث بحلول عام 2027، وخصّصت ما يقارب الثلاثة مليارات دولار لإنشاء أنظمة الإنذار المبكر للكوارث حول العالم. وهذا ما يتطلب استخدام أنواع من الأجهزة الحديثة للإبلاغ غير تلك التي كانت تعتمد على المناداة عبر مكبرات الصوت أو الأجراس والمآذن. وإذ تغيرت وسائل الاتصال كثيراً حول العالم، بات السؤال الذي يُطرح في هذا المجال حول ما إذا كان بالإمكان تزويد كل سكان الأرض بهواتف نقّالة، كون أحدث طرق الإنذار هي عبر تطبيقات هذه الوسيلة العالمية؟!
كما لا يعفي كلّ ذلك الدول من أن تكون لديها استراتيجيات شاملة لإدارة الكوارث، تكون الرئاسة فيها تابعة لرئاسة الحكومة، لأن موضوع الكوارث يشمل كل القطاعات والوزارات تقريباً.
أما الحلول البعيدة المدى، فهي لن تكون كافية إلا إذا كانت على أسس حضارية، والتي تتطلب إعادة النظر في كل الأفكار المسيطرة عالمياً، والتي أوصلت إلى مثل هذه الكوارث وفي طليعتها التنمية والتقدم والرفاهية. وهذا الموضوع لن يحصل إلا بعد المصالحة بين العلم والمجتمع عبر إعادة عقلنة العقلانية الغربية. وعودة الدول لاستعادة أدوارها في دعم البحث العلمي المجرد، لأنّ الدولة هي المؤتمنة على حقوق الأجيال وعلى ديمومة الموارد، والتنبه من كيفية توجيه الأبحاث العلمية حول العالم والتي بات معظمها في خدمة مصالح الشركات الكبرى بدل الشعوب، ولا سيما أن موازنات دعم البحث العلمي حول العالم باتت عند القطاع الخاص أضعاف موازنات دعم البحث العلمي عند الدول. وهذا ما يفسّر عدم إيجاد حلول لمشكلة عالمية مثل تغيّر المناخ وعدم التنبؤ بحصول الكوارث ولا سيما الزلزالية منها، بسبب سيطرة الصناعات الاستخراجية وصناعة الأسلحة على علم الجيولوجيا، ما يعني سيطرة فكرة الاستثمار على الأبحاث والعلوم بدل سيطرة فكرة الحماية، أي سيطرة فكرة المعرفة من أجل الاستثمار والسيطرة وليس "المعرفة من أجل المعرفة" وحماية المجتمع.
وفي النهاية يأتي دور الإعلام، الذي يفترض أن يكون ملتزماً بقضايا الحقيقة والمجتمع وحفظ الحقوق وديمومة الموارد. وهذا الموضوع لم يعد جائزاً من دون التخصص في الإعلام العلمي والبيئي والصحي والتقني… ومن دون تبني مبادئ فلسفة العلم وأخلاقياته، المعطوفة على أخلاقيات الإعلام. كما يفترض بالإعلاميين والعلميين أن يتوافقوا على هذه الأخلاقيات بعد أن يتوافقوا على اعتماد لغة علمية مشتركة ومبسّطة من أجل الجمهور المستهدَف. وليس هذا التوافق على كيفية تغطية الكوارث فقط، بل من أجل إعداد حملات إعلامية مشتركة، استباقية للكوارث والتحذير منها وتخفيف مخاطرها وأضرارها قبل أن تقع، بالإضافة إلى أهمية تغطية الكوارث التي تُعتبر اختصاصاً بحد ذاته.