عندما طُرح مصطلح «السياحة الزراعية» في مؤتمر عُقد أخيراً حول «الأمن الغذائي في لبنان في ظلّ التغيّرات المناخية والإقليمية» كان بعض الحضور يسمعونه للمرة الأولى. فالسياحة الزراعية في لبنان خجولة وتتخفّى وراء أشكال أخرى من السياحة كالبيئية أو التراثية أو الدينية. علماً أنه لو جرى التسويق لها وأبدى المعنيون ولا سيما وزارتي السياحة والزراعة اهتماماً أكثر في الاستثمار بها، لتشجّعت هذه الخجولة وأظهرت أنها قادرة على الاستقلال بذاتها كما تفعل في دول الخارج، بل ساعدت المزارعين المتعثّرين اقتصادياً في تأمين دخلهم، وأعانت القطاع الزراعي المتهالك، وسدّت جزءاً من الفجوة الغذائية.بدايةً، تعرّف أستاذة الهندسة الزراعية في جامعة القدّيس يوسف يولا شمعون السياحة الزراعية بأنها «شكل من أشكال السياحة التي تُعنى بالزراعة»، وتميّزها عن السياحة البيئية بالقول: «بدلاً من الاكتفاء بالنظر إلى الطبيعة، يمكن زيارة أراضٍ مزروعة، لتستمتع بالمشي في البساتين والكروم، وتتعلّم تقنيات زراعية بسيطة، وتشارك في زراعة الفواكه والخُضر وتربية الماشية، وتبني علاقة طيبة مع الأرض». وتشير إلى أن «السياحة الزراعية تستمرّ إلى مرحلة ما بعد القطاف، بمعنى آخر تشمل تحضير المؤن مثل صناعة المخللات والمربيات وغيرها… كذلك تذوّق النبيذ وصناعات أخرى، وقد تطول الأنشطة وتستدعي المبيت في بيوت الضيافة».

عائدات للفقراء
أبعد من نشاط سياحي، تحفظ السياحة الزراعية التراث اللبناني، الذي يرتبط بأحد جوانبه بالتراث الزراعي غير التقليدي، مثل زراعة القمح وعنب النبيذ وتعزّز الشعور بقيمة الثروات الزراعية. وتساهم في تعزيز القطاع الزراعي. كيف يحصل ذلك؟ أولاً، «تروّج للمنتجات المحلية عن طريق تذوّق النبيذ مثلاً»، وثانياً، «تشكّل مصدراً ثانياً لدخل المزارعين بعد النشاط الزراعي الرئيسي». فخلافاً للسياحة الريفية، التي أصبحت في العديد من الأماكن نشاطاً يوفر حصة غالية من مصادر دخل روّاد الأعمال، توفر السياحة الزراعية مداخيل للمزارعين. بحسب شمعون، «إذا تألفت عائلة المزارع من خمسة أفراد فيجب أن تبلغ مساحة أرضها 6 هكتارات لتسدّ احتياجاتها، إلا أنه وفق إحصاءات وزارة الزراعة التي تعدّها بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة معظم المزارعين هم فقراء، ما يعني أن المزارع يحتاج إلى خلق أنشطة إضافية لتوفير دخله مثل السياحة الزراعية».

ليست نشاطاً مستقلاً
انطلاقاً من هنا، ومن أن «40% من مساحة لبنان قابلة للزراعة، فيما 25% فقط من مساحته مزروعة»، ومن تحدّيات الأمن الغذائي في العالم عموماً وفي لبنان خصوصاً، لا يعدو الحديث عن تنمية السياحة الزراعية في لبنان ترفاً. في الواقع، قلّما تجد في لبنان نشاطاً يقوم على سياحة زراعية فقط، بل يدخل النشاط الزراعي ضمن سياحة المشي أو زيارة المحميات، أو تعرض عائلة منتجاتها من الأطعمة التراثية على طاولة مثلاً. ولا يزال الزائرون ينحصرون بأبناء المدينة الذين يقصدون الريف وليس الأجانب.
تفسّر المهندسة في مصلحة التجهيز في وزارة السياحة رانيا عبد الصمد ذلك كون «السياحة الزراعية نشاطاً حديث الولادة عالمياً وليس فقط في لبنان». وتقدّر عدد المشاريع التي تُعنى بها بشكل خاص بـ50 مشروعاً. لكنّ هذا العدد آيل للارتفاع، وفق عبد الصمد، لأنه «بعد انتشار وباء كورونا وإقفال الفنادق، توجه الناس إلى الأرياف وراجت بيوت الضيافة أكثر بفعل الأزمة الاقتصادية في لبنان باعتبارها أوفر مادياً، كما ظهر ميل عالمي إلى الاهتمام بالأرض وربط السياحة بالاقتصاد والزراعة والبيئة».

دير الأحمر نموذجاً
في سبيل تشجيع السياح على السياحة الزراعية، استحدثت «رابطة سيدات دير الأحمر» ثلاثة دروب سياحية في دير الأحمر، ضمن مشاريع التنمية الريفية المستدامة التي أطلقتها عام 2000، والتي تولي اهتماماً بالسياحة الزراعية باعتبار المنطقة زراعية وتوفّر الحياة القروية. الدروب هي: «درب مريم لزيارة الكنائس القديمة، درب النبيذ الذي يمرّ بكروم العنب لقطف العنب وورقه، والتعرف إلى صناعة النبيذ، ودرب الرومانية الذي يصل بين بعلبك وجبيل ويشمل زيارة قصر بنت الملك ومحمية اليمونة». هذا يعني أن النشاطات الزراعية تمرّ تحت عنوان السياحات الدينية والتراثية، وهذا ما أشارت إليه رئيسة الرابطة دنيا خوري أساساً في حديث مع «الأخبار».
و«تنظم الرابطة نشاطات لمساعدة المزارع في قطف التفاح والعنب وتحضير الألبان والأجبان، والتعريف بعملية حصاد القمح، وصناعة الفريك… كما تدرّب أبناء المنطقة لتقديم الخدمات السياحية وليكونوا مرشدين محليّين، عدا أنها تشجع السيدات لفتح بيوتهن للضيافة حتى صار هناك 30 بيت ضيافة في دير الأحمر».
نشاط حديث عالمياً ويُقدّر عدد المشاريع التي تُعنى به بشكل خاص في لبنان بـ50


تتحدّث خوري عن مروحة من التحديات التي تقف في طريق رواج السياحة الزراعية. بشكل عام، لا تختلف عن التحديات أمام تنمية السياحة ككلّ، والتي ترتبط بالاستقرار الأمني والسياسي وتدهور البنى التحتية ولا سيما الكهرباء والمياه. يضاف إليها «غلاء المواصلات إلى الأرياف بالنسبة إلى الزائرين الأساسيين وهم أبناء المدينة». أما التحدي الأساسي الذي يُجمع عليه كل من خوري وعبد الصمد وشمعون هو ضعف التسويق والتخطيط. تلفت الأخيرة إلى «ضرورة وضع مسارات سياحية تشجع بطريقة مثيرة للاهتمام السياح على التجربة وتعطي المعلومات اللازمة عن الأنشطة والمزارع».

وزارة السياحة: لا نسوّق لها
ننقل هذه التوصية إلى وزارة السياحة، فيتبيّن عدم اعترافها بالسياحة الزراعية كنشاط قائم بذاته، إذ تردّ عبد الصمد «إننا لا نسوّق للسياحة الزراعية بشكل مباشر لكننا ندخل من الباب الثقافي، وبالتعاون مع وزارة الزراعة، لنروّج للزراعة عن طريق السياحة مثل التسويق لثقافة الزيتون اللبناني عبر درب الزيتون». وتضيف: «نشجع على الاستثمار في بيوت الضيافة في كلّ مؤتمر صحافي لوزير السياحة كما شكّلنا نقابة لها»، لافتة إلى أنه «عندما نفتح دروب المشي، هذه سياحة مستدامة تشجع على الإقبال إلى مطبخها وبالتالي تؤدي إلى الترويج للسياحة الزراعية».
في الخلاصة، ما تنقله خوري عن استمتاع الزائرين بتجربة السياحة الزراعية في دير الأحمر، ولا سيما الأطفال الذين يزورون مزارع الغنم والماعز ويشاركون في قطاف التفاح والزيتون، وتكرار المجموعات التجربة في أكثر من موسم، يؤكد أن السياحة الزراعية لم تنتشر لا لأنها غير مرغوب بها بل لأنه ينقصها الاعتراف بها أولاً ثم العمل جدياً على تطويرها ثانياً.