أمسك بكاميرا واجلس الى جهة البحر في اي سيارة ذاهبة الى الشمال او الى الجنوب، واترك العدسة مفتوحة و... صوّر. حين تستعرض ما صورت ستجد ان عدد معارض السيارات التي تبيع المستعمل او الجديد من السيارات هو العنصر الاكثر تكراراً في الفيلم الذي صورته: مئات معارض السيارات تحتل الجهة البحرية من الشاطئ اللبناني، من الناقورة الى العبدة شمالا، متنافسة مع عدد محتلي الاملاك العامة البحرية، فضلاً بالطبع عن المعارض الى جهة اليابسة من الاوتوستراد.
اما المفردات الأخرى للمشهد فهي تصب في المشكلة ذاتها، محطات بنزين تحتل اجمل المواقع على الشاطئاللبناني، كراجات لتصليح السيارات، محال بيع اكسسوار للسيارات... اما الاوتوستراد نفسه فتعلمون ان ما يباع في تلك المعارض او غيرها، يصب عليه: في زحمة السير الخرافية التي اصبحت تصلح شعاراً وطنياً من الممكن ان يحل محل الارزة الخضراء بكل سهولة للاشارة الى لبنان. هذا «الانتفاخ» في العرض والطلب على السيارات الخاصة والعمومية ليس الا الوجه الآخر، الصورة السلبية للفساد والكسل واليأس العام اللبناني في شقيه: الرسمي والمواطني. وكما كل انتفاخ او غير صحي او موقت، يأمل اللبنانيون ان يتعافوا منه بقدرة قادر. اما مسببو الانتفاخ الاصليون، فهو آخر ما يهمهم. ما يهمهم هو بيع المزيد من السيارات والفانات والبوسطات والوقود وزيت السيارات والاكسسوارات ومصالح المواطنين والبلد. انهيار النقل العام ليس نتيجة للحرب الاهلية كما يظن البعض. بل هو بكل بساطة سياسة بكل ما للكلمة من معنى. سياسة اتبعتها العهود المتوالية منذ ما بعد الرئيس الراحل فؤاد شهاب، الرجل الوحيد الذي فكر بالمؤسسات ومنها النقل العام. فهو الذي استتبع الترامواي لمؤسسات الدولة، كونه كان يتغذى على كهرباء الدولة. أما بعده، فقد دخل اصحاب المصالح الخاصة من سياسيين وشركائهم من رجال الاعمال والاثرياء على الدولة وحولوها الى مزرعة لمصالحهم. هكذا توقف الترامواي الذي غنى له عمر الزعني رائد الاغنية السياسية في لبنان «رزق الله ع ايامك يا ترامواي بيروت». وكذلك توقف خط التران وتوقفت معه شيئاً فشيئاً بوسطات المناطق فبيروت. هكذا انتقل النقل العام المشترك الى رحمة الله، وحل مكانه النقل المشترك الخاص منذ زمن طويل. طوردت باصات الدولة واستولت المافيات على خطوطها في العاصمة والضواحي، وانتحلت باصاتها الخاصة ارقام الخطوط العامة فاصبح هناك الفان رقم ٤ بدلاً من باص الدولة، وباصات الخط ٢٤ التي يحرس خطها «صاحب الموقف» الذي زرع ابنه عند نهاية الخط اضافة الى خيمة اخرى جهة البربير، والخط ٢ والخط ١٥ الخ... احتل النقل الخاص مكان النقل العام لدرجة ان جيلاً جديداً من اللبنانيين، تحديداً جيل الحرب وما بعده يختلط عليه الامر حين تقول نقل مشترك عام فيظنون ان النقل الخاص هو المقصود بالعبارة. الفوضى عارمة. مواقف النقل الخاص تحتل ارصفة المدن والضواحي بالبلطجة وبالحمايات السياسية. الفوضى عارمة لدرجة ان قائداً عسكرياً لمنطقة الشمال زرع لافتة على موقف في طرابلس يقول إنه تحت «اشراف قوى الامن الداخلي»! اما كيف يحق له ذلك؟ فلا قانون يخبرنا ولا مسؤول ينورنا... والخلاصة: النقل العام المشترك لا وجود له، صحيح ان الدولة تضع من حين الى آخر خططا (كما فعلت منذ ايام) وبرامج شراء لباصات الخ... ولكن ان لم تكن قيامة هذا القطاع تؤمن المصالح الخاصة، فكيف يمكن لهذه الخطط ان تنفذ؟ لا مصلحة الا للمواطن في ان يكون لهذا النقل العام وجود. الا ان هذا المواطن الذي نسي معنى العبارة أصلاً كيف يدرك ذلك؟ وان أدرك، فهل يستطيع ان يفرضه على هذه المزرعة المسماة لبنان متحدياً بذلك مافيات السيارات والوقود المتمركزة في قلب السلطة؟ انظروا إلى ما يحصل في سلسلة الرتب والرواتب وستحصلون على الجواب. وبالانتظار اشتروا مزيداً من السيارات وابقوا هناك، في الزحمة العجيبة بانتظار ولادة وطن من دون اي جهد. هو الحبل بلا دنس ما تنتظرون... فانتظروا.