تكاد عبارة «البيت بيتك» تنطبق على العراقيين، الذين يزورون لبنان، وتحديداً من يختار منهم «شارع الحمرا» للإقامة فيه خلال فترة إجازته أو علاجه. كلّ الخدمات التي لا تشعر المسافر بأنه بعيد عن وطنه يجري تأمينها بدءاً من المنامة، وليس انتهاء بقصة الشعر. ظاهرة بدأت خجولة مع بداية الأحداث في سوريا، وانتشرت مع بدء الأزمة الاقتصادية في لبنانفي بداية شهر أيلول الماضي، أعفى مجلس الوزراء الرعايا العراقيين من تأشيرة الدخول إلى لبنان، ومنحهم إقامة لمدة شهر مجانية قابلة للتمديد (حتى 3 أشهر)، إضافة إلى إسقاط المادة المتعلقة بحيازة هؤلاء على مبلغ ألفَيْ دولار كشرط للدخول إلى الأراضي اللبنانية. القرار الذي لم يؤثر كثيراً على حركة القادمين من العراق (وصل إلى لبنان خلال شهرَيْ أيلول وتشرين الأول الماضيين 38.446 عراقي حسب الأمن العام)، إذ استمرّ توافدهم بالوتيرة ذاتها، يؤشر إلى ملاحظة إقبال العراقيين على زيارة لبنان، الذين يحضرون بشكل ظاهر في شارع الحمرا. يمكن لأيّ عابر في الشارع البيروتي أن يلتقي بهم، وأن يقع على استثمارات تجارية خاصة بهم، بعضها يعود لسنوات عاد ولاقى انتعاشاً، وأخرى دخل فيها مستثمرون عراقيون تقدّم خدمات محصورة بهم فقط، كالمطاعم والمقاهي وحتى صالونات التجميل.

صيف حافل
على بُعد أمتار قليلة من شارع الحمرا الرئيسي، وتحديداً عند ما يعرف بـ«نزلة السارولا»، يتمركز فندق Orient Prince Hotel، الذي كان مقفلاً سابقاً وافتتح قبل عام ونصف العام ليتحوّل إلى فندق خاص بالنزلاء العراقيين. لم يكتفِ الفندق بتقديم خدماته التي تمتد على 41 غرفة، بل ضمّ إليه حديثاً مساحة إضافية بعد شرائه محالاً كانت تُستخدم لتأجير السيارات وحوّلها إلى كافتيريا ومطعم أسماه «أهل العراق» يلتزم بلائحة طعام خاصة بالأطباق العراقية، يقوم بطهوها طباخ عراقي ويعمل فيه لبنانيون.
يتحدّث مدير المطعم سلام محمداوي عن استثماراته مع شركائه في لبنان، فبعدما دخل في شراكة مع رجال أعمال عراقيين في مجال الاستثمار في الفنادق، والذي تأثر بدوره بأزمة كورونا وما بعدها، اتجه صوب الفندق البيروتي المقابل لمقرّ جريدة «السفير»، وحوّله إلى فندق خاص بالعراقيين، مستثمراً فيه لمدة 3 سنوات. يقول محمداوي إن الوجهة السابقة للعراقيين قبل سنوات قليلة، كانت تركيا بعد انهيار العملة الوطنية داخلها، لتتحوّل إلى لبنان، خاصة بعد عام 2019، وبدء الانهيار الاقتصادي والمالي، وسهولة استحصال العراقي على خدمات كثيرة بأسعار جدّ مقبولة بفعل سيولة الدولار. فقد وصل سعر الليلة الواحدة في الفندق إلى 18$، وفي فندق خمس نجوم إلى 30$، قبل أن تعود الأسعار إلى الارتفاع مجدداً كما هي عليه اليوم. ومع ذلك، فإن الموسم الصيفي كان حافلاً جداً، بحسب تعبيره، إذ امتلأت غرف الفندق بشكل كامل، واضطر للاستعانة بغرف خارجية تعود لـ8 فنادق نزل فيها القادمون من العراق، في منطقة الحمرا.

العلاج أولاً
وعندما نسأل عن خاصية هذا الشارع البيروتي وعلاقة العراقيين به، يجيب محمداوي بأن الوجهة السابقة لهؤلاء كانت منطقة جونية، قبل أزمة كورونا، واليوم تتمركز السياحة العراقية في منطقتَيْ الحمرا والروشة، إذ يجد السائحون ما يفتشون عنه من أماكن للتسلية أو الراحة وحتى للاستشفاء. إذ ما زال «مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت» يشكل مركزاً أساسياً للعراقيين الذين يتوجهون إليه منذ سنوات طويلة طلباً للعلاج والاستشفاء. ولا ينسى صاحب المطعم العراقي، الذي مضى على وجوده في بيروت ما يقرب من الـ18 عاماً، بعد اقترانه بلبنانية، ما كان يردّده والده على الدوام بأن يتوجه المريض العراقي إلى لبنان ويكفيه أن «يشمّ» هواءه، ليبدأ بالتعافي. مقولة أراد محمداوي التماسها في بيروت، فقدم قبل سنوات إلى العاصمة اللبنانية، وفضّل العيش فيها على التوجه إلى الولايات المتحدة الأميركية بعد قبول طلب اللجوء عقب اجتياح العراق (2003)، ولم يندم على هذا القرار حتى يومنا هذا.

المطبخ العراقي
أكثر من مطعم في الشارع بات يحمل أسماء مدن عراقية، منها «مطعم عراق الخير» الذي تأسّس عام 2010، وخصّص لائحة طعامه للعراقيين فقط. الشيف خليل شهاب، الطاهي في المطعم، يحدثنا عن تحويل هذه الكافتيريا اللبنانية إلى مطعم عراقي، وكيف وفد العراقيون إلى لبنان بأعداد كبيرة خاصة بعد الحرب في سوريا، والأغلب منهم توجه إلى «مستشفى الجامعة الأميركية» للعلاج. يرى شهاب صعوبة في طهو الطعام اللبناني نظراً لتعدّد أطباقه، والتي تختلف من منطقة إلى أخرى رغم صغر مساحة لبنان، بخلاف الأطباق العراقية التي، وعلى اختلاف واتساع المحافظات العراقية، إلا أنها تبقى واحدة ومن السهل طهوها.
يكفي المريض العراقي أن يشمّ هواء لبنان ليبدأ بالتعافي


لا يعير شهاب أهمية لإلغاء التأشيرة بين البلدين «مش فارقة معهم 40$» تدفع في مطار بيروت، فبرأيه من يملك ألفي دولار على سبيل المثال يستطيع العيش برفاهية في بيروت. يشغّل المطعم العراقي أياد عاملة من الجنسيات السورية واللبنانية والعراقية، ويستقطب إلى جانب العراقيين اللبنانيين أيضاً. يسأل ممازحاً الشيف العراقي عن عاصمة لبنان، ليجيب بابتسامة بأن شارع الحمرا بالنسبة إلى العراقيين بات هو العاصمة لا بيروت.

...وصالون للحلاقة
في نهاية الشارع البيروتي، يقع «صالون عيون بغداد» الخاص بحلاقة الشعر للرجال من الجنسية العراقية. الصالون الذي انتقل من جونية قبل عام ونصف العام إلى شارع الحمرا الرئيسي، يخصّص خدماته للزبائن العراقيين حصراً، ويقول العامل داخله بأن أعداد هؤلاء ازدادت خاصة بعد إلغاء التأشيرة و«زاد الشغل» (أكثر من 15 زبوناً في اليوم الواحد)، خاصة للشباب والطلاب الجامعيين، وسط مطالبة من النساء العراقيات بتخصيص مساحة تجميلية لهنّ أيضاً، وهذا ما يُعمل عليه في الوقت الحالي، خاصة مع فتح أبوابه إلى ساعة متأخرة من الليل.