يكاد أصحاب المحلات الكائنة في شارع العازرية في وسط بيروت لا يعرفون المكان الذي يجلسون فيه. الشارع الذي كان يضجّ بالحياة، تحوّل اليوم إلى «موقف كبير للسيارات». هو لا يشبه في شيء الشارع الذي «كان يعجُّ بالمتسوّقين والسيّاح، وبالمحلات التجاريّة من الشّركات العالميّة والمحلّية، والمطاعم والفنادق ومكاتب السّياحة والسّفر، والذي يعدّ مركزاً لتجمّع أهمّ المحامين في بيروت والوكلاء الحصريّين لكثير من الشّركات».كلّ هذا بات من الماضي. الشارع تغيّر كثيراً، وأبرز ما يفتقده: الموظفين والعمّال الذين خسروا أشغالهم. يقول أحد التّجار إنّ أكثر من 70% من موظّفيه قد خسروا وظائفهم بسبب الكساد الحاصل في البيع والشّراء، ما اضطرّه إلى إغلاق أربعة من محلّاته وتسريح الموظّفين بعد خسائر التّشغيل التي طالته من إغلاق الشّارع. يضيف آخر: «أنا اليوم مضطرّ إلى دفع إيجار المحل من مدّخراتي الشّخصيّة كي لا أخسر مصدر رزقٍ بات خسارةً يوماً بعد يوم، لكن إذا استمرّ الوضع هكذا، بالتّأكيد لن أستطيع الصّمود».
الأرباح انخفضت، نقلاً عن التجار أنفسهم، في المحلات التي تقدّم السّلع بنسبة 80%، و97% في مجال الخدمات (فنادق، مكاتب السّياحة والسّفر...). يقول أحد أصحاب المتاجر التي بلغ عمرها 35 عاماً: «انخفض عدد الموظّفين لديّ من 25 موظّفاً إلى 4 موظّفين، فالشّارع الذي كان يوماً يعجُّ بالحياة أمسى شبه خالٍ من المارّة، بعدما صار موقفاً للسيّارات بسبب إغلاقه وقتل حركة المرور به، ما دفعنا إلى خسارة عملائنا وبالتّالي موظّفينا».

استمارات... ولا مساعدات
يلفت التجّار أيضاً إلى «هرب المستثمرين الأجانب» من المنطقة، إذ اجتمعت أحداث 17 تشرين وما رافقها من تكسير للمحلات مع انفجار مرفأ بيروت ليزيدا من حجم المشكلة، فكان إبقاء الشّارع مغلقاً بمثابة الشّعرة التي قصمت ظهر البعير. علماً أنّ أصحاب المحلات لم يُعوّضوا من قِبل الدّولة أو أي طرف آخر، بل أشار التّجار وأصحاب المحلّات إلى أنّ الجمعيّات غير الحكوميّة باختلاف أنواعها تمرُّ أربع مرّات على الأقل بمحلّاتهم شهريّاً منذ انفجار مرفأ بيروت حتى اليوم وتملأ استمارات، من دون تقديم أيّة مساعدات لأصحاب المحلّات في العازريّة.
هذا الواقع دفع إلى تخفيض ساعات العمل، يخبرنا أحد التّجار: «لقد تراجعت ساعات العمل عندنا من 24 ساعة عمل يومياً إلى 10 ساعات بالحدِّ الأقصى لعدم القدرة على تحمّل تكاليف الكهرباء نتيجة الضائقة الاقتصاديّة التي سبّبها إغلاق الشارع، بالإضافة إلى مشكلات أخرى كتسريح الموظفين في الورديّات الليلية، وانخفاض الإنتاجيّة». في المقابل، هناك محلات أصبحت تفتح أياماً معدودةً في الأسبوع بسبب انعدام حركة البيع، ما لا يتناسب مع طبيعة المنطقة التجاريّة هناك.
تراكمت هذه الضّربات وتحوّلت إلى جمود في حركة البيع والشّراء، فالعجلة الاقتصاديّة تكاد تكون شبه متوقّفة لما أصابها من ركود بعدما كانت أسواق بيروت شرياناً مهمّاً في الدّورة الاقتصادية المثمرة في العاصمة كأهم أسواق في المنطقة وأكثرها حضارة، وكانت تُعدُّ روح بيروت الاقتصادية، وتؤمن فرص عمل للطبقات الفقيرة.

سرقة وممنوعات
وقد يكون أكثر ما يقلق من جرّاء هذا الوضع، إعراب التّجّار عن يأسهم لما حلّ في وسط بيروت، فبعدما كانت المنطقة واجهة تجارية حضاريّة للبنان، أصبحت بعد عزلها بالبلوكات الإسمنتيّة «مرتعّا لتسكّع المخمورين والسّكّيرين ومتعاطي المواد المخدّرة». وتتجلى الصورة الأسوأ في أنّ زوايا هذه المنطقة «أصبحت لتجارة المواد المخدّرة والممنوعات وإشكالات المتعاطين، إضافةً إلى عمليّات السّرقة والسّطو التي تطال المحلّات». يوضح صاحب أحد المحلّات الذي تعرّض لمحاولة سرقة: «لقد حاولوا خلع الأقفال ولم يكن هناك من يستطيع منعهم فالدولة قد نسيت هذا الشارع». حتى المارّة باتوا يتخوّفون من عمليّات النّشل والسّلب، وقد بلّغ أصحاب المحلّات عن عمليات كهذه للقوى الأمنيّة والجهات المختصّة، التي باشرت بأخذ التّدابير اللّازمة وتوقيف بعض المشتبه بهم. «لقد اتصلنا بالدّرك وبلغناهم أين يختبئ ويتجمع تجار المخدّرات، أخذوا بعضهم، لكن المنطقة ليست آمنةً بالكامل».
يقول أحد التّجار إنّ أكثر من 70% من موظّفيه قد خسروا وظائفهم بسبب الكساد


التواصل مع الوزراء
لم يقف تجار بيروت مكتوفي الأيدي تجاه خسارتهم الفادحة، بسبب «إغلاق لا سبب له»، فتواصلوا مع وزير الدّاخلية السابق محمد فهمي لكن مكتبه أجّل الموضوع، ثم جرت محاولة للتّواصل مع وزير الدّاخليّة الحالي، إضافةً إلى وزير الأشغال، فلم يلاقوا نتيجة. وأكّد التجّار مجتمعون على فكرة «أنّ لا أحد في الدّولة بهمّه الأمر بتاتاً».
في المقابل، تنفي بلديّة بيروت مسؤوليّتها وترفع الكلفة عن نفسها إزاء البلوكات التي تغلق الشّارع، قائلةً «إنّ هذا أمر يتعلّق بالأمن، ولسنا نحن والمحافظة المسؤولين عن هذه المشكلة»، كما أكّدت أنّها تحتاج إلى مذكّرة من مديريّة المخابرات كي تستطيع أن تُعيد فتح الشّارع مجدّداً.
كما طرحت جمعيّة تجار بيروت المشكلة عند وزير العمل مصطفى بيرم. وبعد تواصل «الأخبار» مع بيرم أكّد أنه سيسعى جاهداً لحلّ هذه الأزمة، وقد تحدّث سابقاً عن هذه المشكلة مع وزير الأشغال علي حميّة، وسوف يتابع بدوره هذا الملف، مؤكّداً أنه لا طائل من إغلاق الشّارع وقتل الحركة فيه.

تحتاج بلديّة بيروت إلى مذكّرة من مديريّة المخابرات كي تُعيد فتح الشّارع مجدّداً


التّجار اليوم مع أهالي المنطقة يطالبون اليوم بإعادة فتح الطّريق وإزالة العوائق الإسمنتيّة التي لا نفع لها، بعدما انتهى سبب وجودها مع انتهاء أحداث 17 تشرين 2019. ويؤكّد التّجّار إنّ الدورة الاقتصاديّة إذا ما فُتِحَ الطّريق سوف تتحسّن بشكل ملحوظ، وسوف تزيد المبيعات بنسبة 25% من الأسبوع الأوّل بعد الفتح. وسوف تُعيد كثير من المحلّات فتحَ أبوابها ما يؤدّي إلى إعادة ضخ دم جديد في تلك المنطقة. كما أن حركة السّير سوف تجذب العملاء من جديد بعدما أصبح الشّارع موقفاً للسيارات، ما يعني متنفّساً حقيقيّاً للمنطقة.