متحوّر «دلتا» زعزع كل الخطط والتوقّعات وحطّم اليقين بالسيطرة على انتشار فيروس كورونا، لدرجة الإيحاء - بشكل خاطئ - أن اللقاح غير فعّال وأنه عديم الفائدة. علماً أنه من دون اللقاح والوقاية الصحية لكنّا أمام كارثة أكثر خطورة. ومع أن الخطط المتبعة ليست مثالية، لكنها بالمؤكد حدّت من حصول أزمة كبيرة في المستشفيات وفي عدد الوفيات. الغاية من اللقاح كانت واضحة منذ البداية «الحد من الوفيات والحالات الحرجة» مع الأمل بالحد من الانتشار. لكن الأمور من الممكن أن تتعقّد مع ظهور متحوّر جديد مثل «دلتا» المسيطر على العالم والقادر على الانتشار السريع والتهرّب نسبياً من الجهاز المناعي. ما زال هناك غموض كبير في مستقبل هذا الفيروس، ولا أعتقد أن أي لجنة علمية في العالم قادرة حالياً أو نجحت في اتخاذ إجراءات مثالية بعيدة من البعد الاقتصادي تحد من انتشار الفيروس.
الوضع الوبائي الحالي في لبنان شبيه ببداية السنة؛ ازدياد أعداد المصابين لا يختلف عن الوضع في أوروبا، ولكن مع نظام صحي منهار كلياً ونسبة تلقيح قليلة نسبياً مقارنة بعدد الملقحين في أوروبا. فقد شهدنا ارتفاعاً ملحوظاً لعدد الحالات الإيجابية في الأيام الأخيرة، مع العلم أن عدداً كبيراً من الأشخاص ليست لديهم القدرة المالية لإجراء فحص الـ«PCR»، مما يؤثر في الأعداد الحقيقية للمصابين. أمّا في معظم الدول الأوروبية، فإن فحص الـ«PCR» مجاني للمخالطين أو من لديهم عوارض.

ومن المحتمل جدّاً أن الاختلاط في المدارس وازدياد أعداد القادمين من الخارج وقدوم فصل الشتاء سوف يكون له أثر سلبي جداً على ارتفاع أعداد المصابين إذا لم تتخذ إجراءات صارمة للحد من الانتشار والتقيّد بالوقاية الكاملة. إن الأطفال يُعَدّون الناقل الأكبر للفيروس، ونسبة الأطفال المصابين في المدارس إلى ارتفاع مما يعرّض الأهل أكثر للإصابة عن طريق الاحتكاك المباشر بهم.

إن الأشخاص الملقّحين يعدّون، نسبياً، أقل عرضة للعوارض الحرجة، ولكن هم معرّضون للإصابة ونقل العدوى للآخرين. وهنا يجب التنبه لهذا الموضوع من المقيمين والقادمين من الخارج؛ التقيّد بالإجراءات الوقائية لحماية أقاربهم. ولا بد من الإشارة إلى أن 60 في المئة من الحالات الإيجابية الآتية من الخارج تعود لأشخاص ملقّحين. بعض الدول الأوروبية تفرض على جميع القادمين من خارجها، ملقّحين أو غير ملقّحين، إجراء فحص الـ«PCR» مرّتين عند الوصول وبعد أسبوع مع المتابعة اليومية للتأكّد من التقيّد بكل الإجراءات الوقائية. أمّا السبب في أن بعض الدول الأوروبية، كفرنسا، لا تفرض الـ«PCR» على القادمين فهو أن عدد المسافرين الكبير يتخطى قدرتها اللوجستية على تغطية كل الفحوصات.

لا بد من إجراء مسح ميداني عشوائي كبير لكل المناطق في محاولة لتحديد أعداد الإصابات الفعلية في لبنان، والاستمرار في الفحوصات الدورية في كل المدارس. كما الاستمرار والإسراع بوتيرة التلقيح، وبخاصة في المناطة النائية، عبر مستوصفات نقالة.

وضع أوروبا المقلق
الوضع الحالي يستدعي وعياً مجتمعياً وعملاً حثيثاً من المعنيين. أوروبا، على سبيل المثال، وضعها الصحي مقلق جدّاً، وأصبحت مرّة أخرى محرّك الوباء. يُعتبر وضع الاتحاد الأوروبي المرتبط بوباء كوفيد «مقلقاً للغاية» في 10 دول، و«مقلقاً» في 10 أخرى. يلخّص المركز الأوروبي لمكافحة الأمراض (ECDC)، أن الوضع الوبائي في دول الاتحاد حالياً يزداد من ناحية الإصابات، وصحيح أن معدّل الوفيات منخفض، لكنه يرتفع ببطء.

في فرنسا، أُعلن عن قدوم الموجة الخامسة، وتم تحديد حوالى 20 ألف إصابة جديدة بفيروس كورونا في 16 تشرين الثاني. وهو تقريباً ضعف متوسّط ​​الأيام السبعة الماضية. وسُجّل ازدياد في الحالات الحرجة بنسبة 10 في المئة. ألمانيا أيضاً، سجّلت رقماً قياسياً جديداً لعدد الإصابات (50 ألف حالة) و228 حالة وفاة في غضون 24 ساعة، تلقّى حوالي 67.5 في المئة من السكّان جرعتين من اللقاح في البلاد ولم يزل العدد بعيداً من النسبة المستهدفة (%75). ويوم الثلاثاء الماضي، قالت بعض الولايات الفيدرالية إنها تنفّذ إجراءات جديدة للحد من الموجة الرابعة. وأعلنت العاصمة البافارية ميونيخ، أنه سيتم إلغاء سوق الميلاد التقليدي ومنع الأشخاص الذين لم يتم تطعيمهم من دخول المؤسسات، حتى لو كانت نتيجة الـ pcr سلبية.

كذلك أعلنت السلطات، في أكثر المناطق الألمانية اكتظاظاً بالسكان، قيوداً أكثر صرامة في أحداث معينة. هذا يعني أن الاختبار السلبي سيكون مطلوباً دائماً لهذه الأحداث، حتى بالنسبة للأشخاص الذين تم تطعيمهم بالكامل أو تعافوا أخيراً من فيروس كورونا. في هولندا، أعلن رئيس الوزراء، مارك روته، عن إعادة إدخال سلسلة من القيود الصحية حيّز التنفيذ مساء السبت الماضي، للتعامل مع عدد قياسي من الحالات في الأسابيع الأخيرة. في النمسا، أُعلن أن حجر غير الملقّحين دخل حيّز التنفيذ يوم الاثنين. وقد وصف المستشار النمساوي الوضع بالخطير. من دون أن ننسى الوضع الخطير في روسيا والأعداد الكبيرة للوفيات والإصابات.

من ناحية أخرى، إن العدد المعلن والموثّق لعدد الوفيات بكورونا في العالم هو 5 ملايين شخص. لكن وفقاً لدراسة حديثة في «ذي إيكونوميست»، بتاريخ 16 تشرين الثاني، إن تقييم الخسائر البشرية للوباء تقدّر بنحو 17 مليون وفاة، أي أكثر من ثلاثة أضعاف الرقم الرسمي. وهذا الاختلاف يشكّك في أنظمة الإبلاغ عن البيانات الديموغرافية في العديد من البلدان حول العالم وبشكل كبير. ومن المعروف أن العديد من المناطق لا تنقل الأرقام بشكل موثوق، حتى إن عضو المجلس العلمي ومدير قسم الصحة العالمية في معهد «باستير» في باريس، أرنو فونتانيت، صرّح أن هذا الرقم يبدو أكثر مصداقية بالنسبة له.

إنفلونزا وكورونا معاً
القلق الذي يسيطر على الجسم الطبي اللبناني اليوم، هو الجمع بين فيروس الإنفلونزا واستمرار وباء «كوفيد». سيكون من الصعب للغاية التعامل مع الوباءين، في ظل الدمار الشامل الحاصل في النظام الصحي.

القلق كبير للغاية، لأننا كباحثين لا نعلم ما الذي يمكن أن يسببه هذان المرضان عندما يجتمعان داخل أجساد المصابين. المعلومات القليلة. تشابه الأعراض بنسبة كبيرة بين المرضين يمكن أن يؤدّي إلى حالات خطيرة، مثل الالتهاب الرئوي الفيروسي والالتهابات البكتيرية الثانوية، أو الموت. ومن هنا، لا بد من التلقيح ضد الإنفلونزا بالتزامن مع التلقيح ضد كورونا واتباع الاحتياطات الوقائية، فالإنفلونزا لا تقل خطورة على حياة بعض الأشخاص. نحن في مرحلة صعبة للغاية، وبخاصة إننا في مرحلة انتشار الفيروسين بالتزامن وبشكل سريع.

* باحث في العلوم البيولوجية، أستاذ جامعي، ومسؤول في مختبر «كوفيد 19» في الجامعة اللبنانية