بيّن الانتشار السريع للوباء المعولَم أن لا حصانة لفردٍ أو دولة؛ سيعتاد «عالم ما بعد كورونا» على أنماط جديدة، إن كانت اجتماعية، اقتصادية أو حتى سياسية. وما كان بدأ قبل فترةٍ من تَمدُّد الفيروس، سيتّخذ منحىً أسرع: صعود الصين إلى صدارة المشهد الدولي، في مقابل تآكل دور الولايات المتحدة، نظراً إلى ثقل التداعيات التي سيتركها «كورونا» على دولةٍ اختارت، عمداً، أن تستجيب متأخرّة لـ«كوفيد-19»، ظناً منها أنها، بهذه السياسة، تحمي اقتصادها.أعلن المؤشّر العالمي للأمن الصحي نتائج تقييم قدرات 195 دولة في الاستجابة للكوارث الصحية. تقييمٌ أعدّه مركز «جونز هوبكنز» للأمن الصحي و«وحدة الاستخبارات الاقتصادية» (EIU)، ونُشر للمرة الأولى عام 2019. وفق النتائج، تصدّرت الولايات المتحدة الترتيب، متقدّمةً بفارق كبير على المملكة المتحدة التي احتلّت المرتبة الثانية، وتلتهما كلٌّ من هولندا وأستراليا وكندا. تُبيّن التهديدات السابقة للأوبئة العابرة للحدود، مِن «سارس» إلى «إيبولا»، صدارة أميركا لجهة التكنولوجيا والمعرفة والحلول، لكنّ هذه الحال تبدّلت في ظلّ «كورونا». من هنا، يمكن طرح سؤالَين: كيف لدولةٍ بإمكانات هائلة أن تفشل بهذه الطريقة الفاضحة؟ ولماذا لم تنتهز الفرصة للاستفادة مِن تجارب الدول الأخرى في إدارة الوباء؟
متأخراً، اعترف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بخطورة الجائحة الوبائية، برغم التحذيرات ممّا هو قادم. شكّل الفيروس، مثلاً، صدمةً للصين، كما إيطاليا حيث انتشر على نطاق واسع وضع هذا البلد في الترتيب الثاني من حيث عدد الوفيات. تجربتان كان يمكن لأميركا الاستفادة منهما، لكنّها لم تفعل، حتى باتت الإدارة الارتجالية للأزمة الصحية وتداعياتها الاقتصادية الهائلة، تهدِّد فرص بقاء ترامب في البيت الأبيض لولاية ثانية.
على الأميركيين أن يواجهوا المعادلة الجديدة التي فرضتها هذه الأزمة


يكشف التقييم الأولي لاستجابة الإدارة الأميركية للفيروس عن عاملين تسبّبا في تسارع انتشاره: الأول تمثّل في البطء، ما أدّى إلى تفشّي الوباء على نطاق غير مسبوق، بعدما خطت الولايات المتحدة على طريق الاستراتيجية الإيطالية في إدارة المرض: الاستجابة المجزّأة وتالياً ارتفاع التكلفة البشرية. في هذا الإطار، يشير ويليام غالستون، مستشار الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، إلى أن الرئيس الحالي «لم يأخذ تفشّي الوباء على محمل الجد، حين كان فريقه قلقاً للغاية في شأنه. الاستجابة المتأخرة أجبرتنا على تبنّي استراتيجية الحدّ من المخاطر، والتي وجّهت ضربة قاسية إلى صحة الأميركيين وحياتهم». أما العامل الثاني، فتجسّد من خلال نشر معلومات مضلّلة حول «كورونا»، والتركيز على لوم الصين واتهامها بنشر الفيروس. في مرحلة لاحقة، حرص ترامب على تحدّي الطبيعة «التهديدية» للمرض الجديد باعتباره «أقلّ فتكاً» من الإنفلونزا العادية. سعى جاهداً إلى توليد إحساس «وهمي» بالأمن الصحي في الوعي الجمعي للمواطنين الأميركيين الذين كانوا يتنقّلون بحرية كاملة بين الولايات، وحتى خارج البلاد، إلى أن اصطدم بواقع تعنّته، لتصبح الولايات المتحدة بؤرة الوباء عالمياً. تَعد هذه الأزمة التي بدأت قبل أشهر قليلة، بأن تكون طويلة وعلى مراحل. وتتجلّى بوضوح حقيقة أن على الأميركيين أن يواجهوا المعادلة الجديدة التي فرضتها هذه الأزمة: غياب «الحصانة» عن الأحداث التي تجري خارج الحدود، وإدراك مدى الترابط الدولي الذي «عولم» الوباء.
منذ بداية تفشّي الفيروس، انتقد ترامب تعامل منظمة الصحة العالمية مع الأزمة، واتهمها بالتواطؤ مع الصين والفشل في منع انتشار الوباء. بَحثُ الرئيس الأميركي عن «كبش فداء»، واعتقاده بأن إيجاده سيساعد في تبديد الانتقادات التي طاولت إدارته الكارثية للوباء، لا يبدوان سياسة ناجعة. فهو يسعى، أولاً، إلى انتهاز فرصة الوباء لإضعاف الصين على المستوى الدولي، وهي سياسة قد ترتدّ عليه من حيث لا يدري. بالنسبة إلى الولايات المتحدة، يُعتبر تعليق المساهمة المالية في منظمة الصحة ذا هدفٍ رمزي في المقام الأول (يتخطّى العجز في الموازنة الفدرالية النصف مليار دولار - قيمة المساهمة الأميركية في موازنة المنظمة لعامين - إذ سيبلغ هذه السنة 3 تريليونات و700 مليار دولار). لكن حتى قبل تفشّي الوباء، كانت خطط ترامب تشير إلى خفض المساهمة الأميركية، وربّما إيقافها تماماً؛ السياق الحالي للأزمة يعزّز ذريعته، إذ يتماشى قراره تعليق التمويل مع رفضه مبدأ المنظمات الدولية والتعدّدية (multilateralism) بجميع أشكالها. هي إذاً رسالة سياسية إلى ناخبيه، تؤكّد، مجدداً، أن الرئيس لن يحيد عن سياسة «أميركا أولاً».
من الناحية الجيوسياسية، ساهم الوباء في «تسارع التاريخ»؛ جميع الاتجاهات والتقديرات كانت تتوقّع صعود وقيادة الصين للنظام العالمي عام 2030 (بحسب دراسة أجراها مصرف «إتش إس بي سي»، فإن بكين ستتفوّق على واشنطن لتصبح أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030). هذه التقديرات قد تصلح لمرحلة ما قبل الوباء، لأن مرحلة «ما بعده» ترجّح أن يتحقّق صعود العملاق الآسيوي إلى صدارة المشهد الدولي في السنوات القليلة المقبلة. من هنا، يصبح احتواء «صعود الصين» ضرورة استراتيجية أكثر إلحاحاً بالنسبة إلى أميركا التي يتآكل دورها على مستوى قيادة العالم، لأسباب تتعدّى الوباء وتداعياته.