بعد ما أثير حول ملف سدّ بريصا، وما قدّمته وزيرة الطاقة والمياه في مجلس النواب أخيراً، كما في بيان لوزارة الطاقة نهاية آب الماضي، لا بدّ من وضع بعض النقاط على الحروف. إنّ ما تتناساه وزارة الطاقة، عن قصد، هو أن سعة بحيرة السد خطّط لها بداية لتستوعب 800 ألف متر مكعب من المياه، بكلفة أساسيّة قدرها 3 ملايين دولار فقط، باعتبار انها كانت بحيرة أو بركة فقط، كما ورد في النسخة الأصلية للاستراتيجية الوطنية وملحقاتها. وما تتجاهله الوزارة أن المشروع بدأ تنفيذه ربيع العام 2003 وانتهى منذ أكثر من 10 سنوات، لكن من دون تشغيله كما كان مخططاً. فمنذ بداية الأعمال، تحفّظ مكتب التدقيق الفني عن إمكانية نجاحه بسبب طبيعة قاعدته وحجم تسرّبات المياه الكبير في أرضيّته وفي القسم المحاذي للجبل الملاصق له.وبدلاً من إلغاء المشروع، اتّخذ قرار مُستغرب يزيادة سعته الى نحو 1.6 مليون م3، بكلفة 10 ملايين دولار. ما لبثت أن ارتفعت إلى 17 مليوناً وفق وزارة الطاقة، بعد محاولات - باءت بالفشل - لعزل أرضية البحيرة ومنع التسرّب. في مقابل تأكيد بعض المصادر أن الكلفة الفعليّة وصلت الى نحو 30 مليون دولار. لكن، في جميع الأحوال، رفض مكتب التدقيق الفني استلام الأشغال وإعطاء أيّ براءة ذمة لحسن تنفيذها، ولاقاه موقف اتحاد بلديات الضنيّة.
لم توضح وزارة الطاقة أسباب الفشل الذي أقرّ به علناً قبل سنوات ممثل مجلس الإنماء والإعمار الدكتور يوسف كرم، بما يؤكّد استخفاف الإدارات في إجراء الدراسات واختيار المواقع بدقّة، كما يدلّ على الفساد والجهل العلميّين. فقد شرح كرم حينها أنه نتيجة خطأ في دراسات الأرضية التي اعتُبرت طبقة بازلت عميقة صالحة، وإذ هي في الواقع قشرة صخرية «بازلتيّة» فيها تفسّخات تحتها طبقات صخرية كارستيّة تؤدّي إلى تسرّب المياه بقوّة. هذه الطبيعة الكارستية المتطوّرة جداً لا ينفع معها، وفق الجيولوجيّين، أيّ عزل ولو على المدى القصير مثل حال التغليف الكامل الذي سيتشقّق حكماً تحت ضغط أوزان المياه المُخزّنة.
غير أن الإدارة الرسمية عاكست الطبيعة وطالبت بأموال إضافيّة للقيام بتغليف كامل، بقيمة تتراوح بين 6 و8 ملايين دولار (من أصل 15 مليوناً مُطالب بها مؤتمر سيدر أو أيّ تمويل آخر)، مما يرفع كلفة المشروع التقديريّة الى نحو 24 مليون دولار أو 37 مليوناً. وتجدر الإشارة إلى أن التمويل المتبقّي من الـ15 مليوناً يُرتقب صرفه على شبكات مياه الشفة في الضنيّة وفق بيان الوزارة، من دون ذكر شبكات الصرف الصحي لتجنّب تكرار مشهد التلوث الكارثي في مناطق أخرى.
الأخطر اليوم، هو إصرار الحكومة على إكمال مشروع سدّ بريصا بما يبيّن حجم الفساد المستشري في قطاع المياه والسدود. وعليه فإن محاربة الفساد يجب أن تواجه أولاً هذا النوع من الفساد، وأن تشمل أهل الاختصاص والعلم المستقلّين في إطار محميّ قانوناً. وما الموقف الحالي لوزارة الطاقة في بيانها الأخير والادعاءات الباطلة لتبرير الحل المُقترح والمغلوط تماماً، إلاّ وجهاً من وجوه الفساد العلمي تحت مسميّات الترقيع. والأخير أتقنته الإدارات لهدر المال العام في ظل سياسات مائية «خرقاء» لا أساس علميّاً لها نسبة الى بلد مثل لبنان. علاوة على ذلك، تستمرّ الإدارة بالتسويق التضليليّ لسياستها بدلاً من اللجوء الى حلول بديلة تفيد المنطقة مثل الاستثمار الجوفي، وتكون أقل كلفة من التخزين السطحي سواء لناحية التجهيز أو التشغيل أو الصيانة ومن دون آثار تدميريّة للطبيعة والبيئة.
ما ورد في بيان الطاقة بأن «طرح حلول للمياه الجوفيّة في هذه المنطقة أمر يدعو إلى العجب نظراً لارتفاعها عن سطح البحر ولوجوب حفر آبار عميقة»... يُثبت أنّ ليس لدى الوزارة أيّ أخصائي جيولوجي لديه خبرة في قراءة الخرائط الهيدروجيولوجية. ويُظهر جهل موظّفيها التام بما يخصّ الآبار ومستوى مياهها في جوف الأرض، إذ يوحي أن المياه المفترض استخراجها من الآبار بنفس مستوى مياه البحر! إن معيار المخازن المائيّة الجوفيّة ليس ارتفاع المنطقة عن سطح البحر، بل مستوى الطبقات الصخريّة الكارستيّة في جوف الأرض وموقع المخازن فيه بالنسبة الى مواقع حفر الآبار. علماً أن التخزين في منطقة سد بريصا هو تخزين طبيعي جوفي، والمياه الجوفية موجودة على أعماق بسيطة فيها، كما هي متوفّرة بشكل عام في الضنية وبكميّات ضخمة. إن فشل هذا السد، إثباتٌ إضافيّ على أن السدود لا تناسب طبيعة جبالنا وصخورنا الكربوناتية الكارستية.
بالعودة إلى كلفة السدّ النهائيّة التي تعلن الوزارة «أنها تبقى متناسبة مع المعايير العالمية»، فذلك يصحّ فقط في حال عدم وجود حلول بديلة بكلفة أقل. والحلول في بريصا تتضمّن وفق الأخصائيين، 3 آبار في منطقة السد بمعدل تصريف مياه بنحو 15 ليتراً/ ثانية لكل منها. هذه الآبار يمكنها تأمين الكمية الإجمالية الصافية المتوقّع استثمارها من جراء التخزين السطحي المكشوف للسدّ والتي لن تتعدّى 1.4 مليون م3، بعد التبخّر والتسرّب الطبيعي والتخزين الإلزامي. الكلفة الإجماليّة للآبار الثلاث يمكن أن تصل إلى مليون ونصف مليون دولار (إذا افترضنا أن عمق البئر يصل الى 450 متراً) من ضمنها الحفر والتجهيز والتمديدات والوصل بالشبكة الرئيسية. إلى التوفير الهائل في الكلفة، يمكن لهذا الاستثمار الجوفي أن يوفّر المياه النقيّة ليس فقط للريّ الزراعي بل أيضاً للاستعمال المنزلي. في مقابل تغيير وجهة استعمال السد وتأهيل أرض البحيرة لتصلح لتغذية المخزن المائي الجوفي من المياه السطحيّة المتساقطة والمُجمّعة مع حفر آبار إضافية تتغذّى من هذا المخزن واستخراج كميات من المياه متناسبة قدر المستطاع مع كميات التغذية الجوفية. وهكذا يتمّ تعويض قسم من هدر المال الحاصل حتى اليوم، إضافة إلى استعمال رصيد الـ15 مليون دولار لتنفيذ شبكة صرف صحي لبعض مناطق الضنيّة مع محطات تكرير حيث يلزم خصوصاً في الوسط والأعالي.
* أخصائي جودة