تقدّر «منظّمة العمل الدولية» عدد المقيمين الناشطين اقتصادياً في لبنان في عام 2018، بنحو مليونين و230 ألف عامل. فيما يشير «مسح ميزانية الأسر لعام 2012»، وهو المسح الأحدث الصادر عن «إدارة الإحصاء المركزي» و«البنك الدولي»، إلى أن 72.3% من مجمل القوى العاملة (أي ما يساوي 1.613 مليون عامل في عام 2018) هم مستخدمون شهريون أو مياومون أو على أساس الإنتاج أو متدرّبون أو يعملون لدى أسرهم، ويُفترض قانوناً تسجيلهم في الضمان الاجتماعي والتأمين عليهم من حوادث العمل، إلّا أن 60.7% منهم (979 ألف عامل) مكتومون وغير مسجّلين ولا يحظون بأيّ حماية من أيّ نوع، وهو ما يتوافق نسبياً مع نسبة العمالة اللانظامية التي قدّرها البنك الدولي في عام 2010 بنحو 56% من مجمل القوى العاملة، وتشمل الغالبية الكبرى من العمّال الأجانب والعاملات في الخدمة المنزليّة، ونحو نصف العاملين في القطاع التربوي والجهاز المدني في القطاع العام، وأكثر من ثلث العاملين بأجر في القطاع الخاص. هذه المعطيات تبيّن أن نسبة العمّال المحميّين من حوادث العمل تقلّ عن 2.8%، وربما أقل بكثير في حال الأخذ بالحسبان عدم دقّة الأرقام المتعلّقة بالعمّال المهاجرين وظروف العمل التي يعانون منها.


5 وفيات و6 إصابات شهرياً
وفقاً لإحصاءات قوى الأمن الداخلي سُجّل نحو 165 حادث عمل بين عام 2017 ومنتصف نيسان/ أبريل 2019، أدّت إلى وفاة 72 عاملاً وإصابة 93 آخرين. وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي، توفي 15 عاملاً وأصيب 19 آخرون، أي بمعدّل 5 حالات وفاة وأكثر من 6 إصابات شهرياً، وهو يعدّ رقماً كبيراً بالنسبة إلى اقتصاد شبيه بالاقتصاد اللبناني يفتقر للصناعة والزراعة وسلاسل الإنتاج وتتركّز 70% من العمالة في التجارة والقطاعات الخدمية والوساطة المالية، في مقابل 16.3% في الزراعة والصناعة، و13.7% في الإنشاءات والنقل وأنشطة البريد والاتّصالات.
إلى ذلك، لا تتضمّن هذه الإحصاءات، وفقاً لشعبة العلاقات العامّة في المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي، «سوى حوادث العمل التي جرى التبليغ عنها وسطّرت فيها محاضر نتيجة ادّعاء عامل مصاب أو أهل عامل متوفى، وبالتالي هناك حالات أخرى لا يتمّ التبليغ عنها ولا يعلم أحد بها، خصوصاً أن هناك عمّالاً لبنانيين وأجانب لا يبلّغون عن الحوادث التي يتعرّضون لها خوفاً من طردهم وفقدان عملهم، أو خوفاً من الاعتقال والترحيل بسبب عدم قانونية أوراقهم، وكذلك لا تشمل هذه الإحصاءات انتحار العاملات الأجنبيات في الخدمة المنزلية، أو التصريحات التي تفيد بأن الإصابة ناتجة عن حادث خارج العمل للاستفادة من تقديمات الضمان الاجتماعي، لا سيّما في الحالات التي يكون فيها ربّ العمل متهرّباً من التأمين على العمّال لديه».

دولة أصحاب العمل
هذه الحماية المتوافرة لعدد قليل جدّاً من العمّال مجتزأة، وهي لا تقيهم من أيّ عجز مؤقّت أو دائم، جزئيّ أو كلّي قد يعيقهم عن العمل، وكذلك لا تحمي أسرهم من المخاطر الاجتماعية والاقتصادية التي قد تترتّب عليها جرّاء تعرّض العامل المعيل لعجز أو وفاته. ويعود ذلك إلى امتناع السلطة السياسية، منذ 56 عاماً وحتى اليوم، عن إقرار مرسوم يجيز بدء العمل بفرع طوارئ العمل والأمراض المهنية في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والذي يتضمّن أحكاماً تتضمّن تدابير إلزامية للوقاية من حوادث العمل، وتقدّم الحماية الاجتماعية والاقتصادية للعامل في حال تعرّضه لحادث في عمله وأدّى إلى تعطّله عن العمل مؤقتاً أو بشكل دائم، أو إصابته بمرض مهنيّ نتيجة القيام بعمله، عبر تأمين التقديمات الصحّية الكاملة والتعويضات وراتب دائم يقيه العوز.

333

دولاراً أميركياً هي القيمة الوسطية التي دفعتها شركات التأمين الخاصة حتى أيلول/ سبتمبر 2018، لقاء التكفّل باستشفاء العاملين الذين تعرّضوا لحوادث عمل وهي لا تشمل العاملات في الخدمة المنزلية


يقول رئيس مصلحة القضايا في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي صادق علوية: «لا شيء يحول دون وضع فرع طوارئ العمل والأمراض المهنية قيد التنفيذ سوى عدم وجود إرادة لإصدار مرسوم بدء تنفيذ القانون وتحديد نسبة الاشتراكات المفترض بأصحاب العمل تسديدها. وهنا لبّ المشكلة كون أصحاب العمل غير موافقين على زيادة مساهمتهم بالاشتراكات، ويكرّرون الحجّة نفسها منذ أكثر من نصف قرن، وهي أن الاقتصاد لا يحتمل ولا يجوز تحميلهم أعباء إضافية. لكن في المقابل، يتمّ ترك العامل لقدره كونه الحلقة الأضعف، فهو يبيع قوّة عمله لصالح ربّ عمل يراكم رأسماله، ومن دون الحصول على أيّ حماية، خصوصاً أن شركات التأمين لا تعوّض عنه، وفي حال دفعت التعويضات غالباً ما تكون ضئيلة وضمن هوامش تحافظ على ربحيتها». ويتابع علوية: «قد تكون حوادث العمل في لبنان أقل خطورة من الأمراض المهنية الناجمة عن العمل، لا سيّما أن الاقتصاد اللبناني يفتقر للصناعات الكبيرة التي تشهد الحوادث الطارئة الأكثر خطورة، في حين أن الوظائف المتوافرة تترتّب عليها أمراض مزمنة ودائمة، مثل إصابة عمّال معامل الترابة بالسرطان ونسيانهم، أو تعرّض موظّفي المصارف والإدارة لأمراض مزمنة في الظهر، أو تعرّض عمّال الكهرباء لتشوّهات دائمة نتيجة عملهم أو لأمراض تنفسية مختلفة... علماً أن كلّ هذه الحالات يلحظها قانون الضمان الذي لا يحتاج لأي إعادة نظر، وإنّما مجرّد السماح بتطبيقه».
حالياً تخضع حوادث العمل لأحكام المرسوم الاشتراعي رقم ET 25 الذي ألقى مسؤولية التعويض عن إصابات العمل على عاتق صاحب العمل، وحصر هذه المسؤولية ببعض الأعمال والمشاريع التي تعدّ خطيرة بطبيعتها، كالعمل في المناجم والمقالع والبناء وورش حفر الأتربة واستثمار الغابات وأعمال الشحن والتفريغ والتنقيب عن الآثار، والذي عُدّل في عام 1983 بموجب المرسوم الاشتراعي 136 وتضمّن أحكاماً أكثر شمولية من المرسوم القديم، تخضع لها كلّ الإصابات المفاجئة الناجمة عن عامل خارجي وقد تلحق بأجير مرتبط بعقد استخدام، مع إبقاء مسؤولية التعويض عن إصابات العمل على عاتق صاحب العمل فيتكفّل بها مباشرة أو يؤمّن على الأجير بموجب بوليصة ضدّ حوادث العمل لدى شركة تأمين خاصّة. إلّا أن أحكام المرسوم 136 هذه بقيت دون تلك المنصوص عنها في قانون الضمان الاجتماعي الصادر في عام 1963، سواء على صعيد الفئات المشمولة بأحكامه أو الإصابات المغطّاة أو التعويضات المدفوعة.



الموت حرقاً وصعقاً وفرماً... وإهمالاً
تُبيّن إحصاءات قوى الأمن الداخلي أنه خلال السنتين الماضيتين مات 3 عمّال حرقاً، و8 بصعقات كهربائية، و13 سقطوا أثناء تركيب لوحات إعلانية أو صيانة أعطال كهربائية، و7 آخرون عند قيامهم بتنظيف شرفات منزلية، وكذلك توفي عامل علِق شاله بـ«كومبرسور الهواء» في أحد المعامل، وآخر بسبب وقوع «سلك ونش» على رأسه، و10 آخرون بسبب سقوط آلة حادّة أو حائط دعم عليهم، فيما قضى 71 عاملاً سقوطاً في ورش بناء... تدلّ هذه النماذج على مدى وحشية بيئة العمل في لبنان، إلّا أنها تمرّ من دون أيّ اكتراث. فوزارة العمل عاطلة عن العمل في هذا المجال، وهي لا تجد نفسها معنيّة بأكثر من «متابعة الشكاوى التي قد تصلها»، مع ما يشوب هذه المتابعة من انحياز في أحيان كثيرة لصالح أصحاب العمل.


الدولة التي لا تكترث لعمّالها

المصدر: قوى الأمن الداخلي (إحصاءات 2017 - نيسان/أبريل 2019)

تعدّ وزارة العمل الجهة الأولى المعنية بمتابعة قضايا العمّال وتنظيم العمل وتحسين ظروفه تبعاً للقوانين المرعية والاتفاقيات الدولية التي تُعنى بالعمّال. إلّا أن الوزارة لم تسجّل في تقاريرها السنوية بين عامي 2009 و2017 سوى حادث عمل واحد في عام 2017. يبرّر مدير عام الوزارة جورج أيضا الأمر في اتصال مع «الأخبار» بالقول إن «لا علاقة لوزارة العمل بحوادث العمل. مش شغلتنا. الموضوع عند شركات التأمين. نحن نتدخّل في حال اشتكى أحد العمّال من عدم التعويض له». في المقابل، لا يملك الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي نظاماً خاصاً لإحصاء حوادث العمل باعتبارها «لا تدخل ضمن صلاحيّاته الراهنة نتيجة عدم تأسيس فرع طوارئ العمل والأمراض المهنية»، وفقاً لرئيس مصلحة القضايا في الصندوق صادق علوية. أمّا قوى الأمن الداخلي فهي لا تقوم بفرز هذه الحوادث بطريقة آلية فور وقوعها، إلّا أنها الجهة الوحيدة التي تعاونت في توفير إحصاءات حول حوادث العمل في لبنان، وقد حصلت عليها «الأخبار» بناءً على طلب وُجّه إلى المدير العام اللواء عماد عثمان عبر شعبة العلاقات العامّة، وتفرّغ لتنفيذه مجموعة من العناصر العاملين في المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي على مدار أكثر من ثلاثة أسابيع تمّ خلالها تفريغ كلّ المحاضر التي تعود إلى عامي 2017 و2018 وحتى منتصف نيسان/ أبريل 2019.