قبل نحو شهر، كان بعض (كبار) القضاة يَحكّون رؤوسهم، بحثاً عن دخل مالي إضافي. يُريدون ملء «صندوق تعاضد القضاة». لم يطل بهم «الحكّ». وعلى طريقة «وجدناها» خرجوا بالآتي: على ذوي السجناء أن يدفعوا ضريبة ماليّة مقابل زيارة أقاربهم. قرار غير مسبوق منذ الاستقلال، بل منذ إعلان «لبنان الكبير». لا أحد يعرف طبيعة طبقات مجتمعنا أكثر مِن القضاة، يعرفون أنّ هؤلاء، ذوي السجناء، بلا صوت. هم، غالباً، الأكثر «تعتيراً» في المنظومة. هم شريحة «الكسر» في المنظومة. إذاً، هلمّوا بنا إلى جيوبهم... المثقوبة أصلاً.بالكاد يُمكن لتلك المرأة المسنّة أن تمشي. بالكاد صعدت الدرج، لاهثة، لتصل إلى قلم النيابة العامّة في عدليّة بيروت. تُريد «ورقة مواجهة» (كما جرت عادة تسمية زيارة السجناء). فجأة، يسألها الموظّف: أين الطابع؟ أيّ طابع، تجيبه. كان واضحاً أنّه بات منزعجاً مِن كثرة ترديد الأمر: «آخر القاعة على إيدك الشمال يا حجّة». مِن هناك تُجلَب الطوابع القضائيّة. تزور ابنها السجين منذ مدّة طويلة ولم يُطلَب مِنها أيّ طوابع سابقاً. عليها الآن أن تسير نحو 300 خطوة لتصل إلى آخر القاعة وتشتري «ضريبتها» الجديدة. ثمن الطابع الواحد ألف ليرة. تعود إلى الموظّف حاملة الطابع القضائي بيدها. يُدوّن اسمها على الورقة، قبل أن تطلب مِنه، بصوت خفيض، إضافة أسماء آخرين مِن الأقارب يُريدون الزيارة معها. هنا تبدأ «نرفزة» الموظّف، كمن يخرج البخار مِن رأسه، وبنبرة استعلاء يقول: «يا حجّة لكلّ شخص بدوّ يزور طابع، لحالك طابع، إذا 3 أشخاص فلازم تجيبي 3 طوابع، بدّي ضل عيد لكل حدا!». لديه مِن السخافة، فضلاً عن الخبث، ما يكفي لأن يتوقّع مِن امرأة مُسنّة أن تفهم كلّ هذه التفاصيل وحدها مِن غير أن يشرحها لها بداية. لم يُفكّر هو، ولا مَن هم أعلى مِنه، في وضع ورقة توضيحيّة عند المدخل. لا، لِمَ عليهم أن يفعلوا طالما بإمكان الناس أن «يُبصّروا» ليعرفوا. هو نفسه، ذاك الموظّف الصغير، هل كان ليعرف كيف يتصرّف إن لم يُخبره أحد؟ هذا المشهد يتكرّر، بشكل شبه يومي، في عدليّة بيروت وسائر عدليّات المناطق. كأن تلك الأقبية كان ينقصها البؤس.
عموماً، مَن هم أصحاب هذه «البدعة» الأخيرة؟ ما الوجه القانوني لها؟ لم نسمع عن قانون أقرّ أخيراً يتحدّث عن ضريبة ماليّة، بصيغة طابع قضائي، عند زيارة السجناء. ما نعرفه أنّ المادة 81 مِن الدستور تنص على الآتي: «لا يجوز إحداث ضريبة ما وجبايتها في الجمهوريّة اللبنانيّة إلا بموجب قانون شامل تُطبّق أحكامه على جميع الأراضي اللبنانيّة دون استثناء». كان واضحاً أن القرار ارتُجِل، إذ بدأ، لمدّة أسبوع، بطابع واحد لكلّ طلب زيارة مهما كان عدد الزائرين، ولاحقاً أصبحت الطوابع المطلوبة بحسب عدد الزائرين، وغداً الله أعلم. الموظّفون يتهامسون بينهم، وأحياناً بصوت مسموع، عن المبالغ التي ستُجمع مِن هذه العمليّة. أحدهم يقول ممازحاً: «نحن ما طالعلنا شي مِن الموضوع». الموظّف إيّاه، الأساسي، يتحدّث بعد ملاطفته قليلاً عن دفترين يستنفدهما في كلّ يوم زيارة. كلّ دفتر يضمّ 100 ورقة. كلّ ورقة تضم اسماً أو حتّى أربعة اسماء أو أكثر. هذا في اليوم، في عدليّة بيروت وحدها، وهنا يُمكن أن نحسب تقديراً على العدليّات الأخرى في سائر المحافظات وعلى مدى شهر. طابع فوق طابع، فألف فوق ألف... «والحسّابة بتحسب».
نتّصل بأمانة سرّ مجلس القضاء الأعلى، التي يندرج ضمن مهامها التواصل مع وسائل الإعلام، ونسأل عن الأمر. ها نحن نعمل «ضمن الأصول» حرصاً على «هيبة القضاة» (إلخ إلخ) طبعاً. نحصل على وعد أن يأتينا الجواب في اليوم التالي. أسبوع والجواب لم يأتِ بعد. لم نعرف بعد هويّة هواة «جمع الطوابع» الجُدد. حسناً، سندخل مِن النافذة. سنعرف، مِن مصادر قضائيّة، أنّ «القرار طبيعي جدّاً، نحن وفّرنا على ذوي السجناء القيام بالأمر وفق الأصول، حيث يجب عليهم، عند كلّ زيارة، تقديم طلب بذلك مرفق بطابع مالي عادي وآخر قضائي، إضافة إلى توفيرنا عليهم بدل تكلفة طباعة الطلب، وطبعاً جنّبناهم الوقوع تحت رحمة السماسرة». ما هذا! منذ قرن والناس يزورون السجناء ولا يفعلون كلّ ذلك، فكيف تم تجنيبهم ما لا يفعلونه أصلاً: «آه، هذه مشكلة أخرى، هذا خلل قديم، الأمر لم يكن يُطبّق سابقاً والآن قرّرنا تطبيقه إنّما بالطريقة التي رأيناها مناسبة». لطالما كان السجناء أقرب إلى فئران التجارب، حرفيّاً. يُتعامل معهم ككائنات منتهية الصلاحيّة. هذا فهمناه وحفظناه، ولكن، الآن، الحديث عن ذويهم، أقاربهم، الأحرار غير المذنبين، هل سيُدخَلون إلى مختبر التجارب أيضاً؟ نعم، والرهان على صمت هؤلاء، لانكسارهم، في محلّه حسابيّاً. ليس سهلاً على أحد أن ينال مِن القضاة في القانون، هم أهله وناسه، وأدرى الناس بليّ عنق نصّه وتطويعه وإخراج «الأرانب» مِنه أنّى شاؤوا. دائماً ثمّة تخريجة قانونيّة ما.
ما من قانون أقرّ أخيراً عن ضريبة بصيغة طابع قضائي على السجناء

أيّاً يكن، يبقى أنّه على المعنيين إيضاح الأمر وتفسيره للناس، والأهم، بعد التفسير، التبنّي العلني لمبدأ أنّ زيارة السجناء لم تعد مجانيّة. هذا ما يُنتظَر أن نعرفه مِن مجلس القضاء الأعلى، والنائب العام لدى محكمة التمييز، ورئيس مجلس إدارة صندوق تعاضد القضاة... إضافة إلى وزير العدل الذي «طوشنا» بالحديث عن حرصه على «سير عمل القضاء». القاضي علي إبراهيم، النائب العام المالي، إضافة إلى كونه رئيس مجلس إدارة صندوق تعاضد القضاة، أكثر مَن يعرف مِن أين يجب أن تُجبى الأموال لتغذية الصناديق. ما عاينه مِن فضائح، بالأرقام والأسماء، يجعله يُدرك أن «النوعيّات» التي يجب سحب ما في جيوبها، بالقوّة، أهالي السجناء ليسوا مِنهم، بل هم الأبعد عنهم بحسابات فلكيّة. صندوق القضاة ليس في أحسن أحواله، صحيح، وهو «بالويل» كما يقول القضاة، ويجري أخيراً فتح أوراق قديمة بحثاً عن أيّ طريقة، غير مكتشفة بعد، لتغذيته بالمال. ربّما هذه إحدى تمظهرات الأزمة الاقتصادية في البلاد؟ كلّ هذا لا يعني أن يأكل القضاة، وعائلاتهم، مِن أموال جُمِعَت مِن أهالي السجناء. قبل نحو 7 سنوات، وعدت وزارة الشؤون الاجتماعيّة بإنشاء مكاتب لها في السجون، مهمتها رعاية عوائل السجناء التي أصبحت بلا معيل، وذلك «حرصاً على عدم تفكّك عائلة السجين وحمايتها». كان ذلك وعداً هوائيّاً آخر مِن وعود السُلطة. الآن تُفرض عليهم ضريبة لمجرّد الزيارة. عموماً، هؤلاء يتوجّهون غالباً إلى السماء يدعون على مَن يشعرون أنّه يسرقهم، وهو أقوى مِنهم، هذا لِمَن كان يعنيه الدعاء طبعاً. الأكل مِمّا في جيوبهم الرثّة ليس لطيفاً، ليس لائقاً، ليس كسباً يُمكن للقضاة أن يتباهوا به أمام أولادهم. بلاها، يا قضاة، أفضل وأنزه وأنظف.



روتين


يبدأ دوام «موظّفي الدولة» عند الساعة 8 صباحاً؟ على الورق، هذا صحيح. لكنّ ذاك الموظّف في العدليّة، الذي «يَمنح» أوراق زيارة السجناء لطالبيها، لا يحضر إلى عمله إلا عند الساعة 9. زملاؤه يقولون للمتكدّسين عند مدخل النيابة العامة: عليكم أن تنتظروا. أخيراً يأتي «البطل». يهرولون نحوه. يرفع يديه ويقول زاجراً: «لحظة، لحظة، الكل لورا وأنا بعيطلكم». تحصل العمليّة، وفق الآلية الجديدة، مع إضافة طوابع قضائيّة على الطلبات. يُجمعها كلّها أمامه على المكتب. ما الذي تنتظره الآن؟ لا بدّ أن يوقّعها قاضي النيابة العامة، ولكنّ هذا الأخير لم يحضر بعد، لذا على الجميع الانتظار. هذا ليس يوماً استثنائيّاً. الجميع هنا يتعامل مع الأمر على أنّه «روتيني». بالمناسبة، هناك شيء اسمه «هيئة التفتيش القضائي». مقّر هذه الهيئة في العدليّة نفسها. هذا أيضاً شيء «روتيني».


700 مليون ليرة في السنة
يبلغ عدد السجناء في لبنان اليوم نحو 6500 سجين، نصفهم تقريباً (3000) في سجن رومية المركزي، ونحو 800 في سجن زحلة، فيما يتوزّع الباقون على 22 سجناً في المناطق. مَن يطلب زيارة سجين موقوف، أي غير محكوم قضائيّاً بعد، عليه أن يحصول على ورقة إذن مسبق مِن النيابة العامة. عدد هؤلاء الموقوفين في رومية، وفي سائر سجون لبنان، يبلغ نصف العدد الإجمالي لنزلاء السجون، أي أكثر مِن 3000 سجين. طبعاً، ليس كلّ السجناء يُزارون، إذ هناك صنف «المقطوع مِن شجرة» وكذلك صنف «زوروني كلّ سنة مرّة»... وهكذا. ولكن سنفترض أنّ نصف الموقوفين فقط يُزارون، علماً أنّ هناك عائلات تأتي لزيارة سجين واحد، تكون مكوّنة مِن 5 أشخاص مثلاً.
بحسب متابعين لحركة الزيارة التقليديّة إلى سجن روميّة وحده، يُسجّل في كلّ يوم زيارة، تقريباً، ما يصل إلى 600 زيارة. هذا يعني وجود 600 إذن زيارة، وبالتالي، بحسبة تقديرية، شراء نحو 1000 طابع قضائي. ثمن هذا الأخير ألف ليرة لبنانيّة، ما يعني أنّنا، في كلّ يوم زيارة في روميّة فقط، نكون أمام مليون ليرة بدل طوابع قضائيّة تدفع مِن جيوب زائري السجناء. وبما أن نزلاء باقي سجون لبنان يوازون عدد سجناء رومية، فهنا يُضاعف المبلغ ليصل إلى 2000 طابع، أي مليوني ليرة. الخلاصة، كلّ شهر «يتكسّب» صندوق تعاضد القضاة مِن زيارة السجون، بحسب القرار القضائي الأخير، نحو 60 مليون ليرة. أمّا في السنة الواحدة، فيكون المبلغ أكثر مِن 700 مليون ليرة. هذا مبلغ لو قسّم على القضاة، بحسب عددهم، لزاد الراتب الشهري لكلّ واحد مِنهم 100 دولار تقريباً. بالمناسبة، حتّى الطفل الذي يريد أن يزور والده، مثلاً، في السجن، غير معفى مِن دفع بدل طابع الألف ليرة.