عمليات التدقيق في «اوامر الصرف» في نقابة اطباء لبنان، ترسم شبهات كثيرة، الا ان مراكز النفوذ في النقابة تعطّل اجراءات التحقق من وجود الفساد وتمنع مساءلة المتورطين فيه. ثلاث سنوات مضت على فتح هذا الملف، ظهرت خلالها وقائع مثيرة تتعلق بصرف اموال طائلة في غير الوجهة المخصصة لها. ورغم توجيه اصابع الاتهام الى المديرة الادارية، الا ان الاخيرة تحظى بالحماية التامة، بل باتت هي المشرفة فعليا على عمليات التدقيق الجارية!انتظر موظفو نقابة أطباء لبنان حتى أول من أمس ليقبضوا رواتب الشهرين الماضيين. ساد الاعتقاد أولاً بأن التأخير الذي يحدث للمرة الأولى سببه تعذّر تشكيل مكتب النقيب واللجان (بينها اللجنة المالية). إذ لم يكتمل النصاب طيلة أربع جلسات تلت الإنتخابات داخل النقابة بسبب «شبهات فساد» تشوب ماليّة النقابة. ولئن حمل الشهر الماضي بوادر حلحلة بملف انتخاب المكتب و3 لجان (المالية والإدارية والعلمية) من أصل 12 لجنة، إلا أن ذلك لم يقفل الملف الذي فُتح قبل أسبوعين بإخبار رفعه بعض «أهل بيت» النقابة أمام القضاء. إخبار بدأ بـ«جزئية» عنوانها أوامر الصرف الوهمية، وقد يمتد لتشمل أجزاء أخرى تفتح باباً بعد آخر داخل «مغارة علي بابا».
وفي التفاصيل، تقدّم خمسة من أعضاء مجلس النقابة (مؤنس كلاكش، جورج الهبر، باسم ابو مرعي، جوزف حداد ومريم رجب) بإخبار أمام النيابة العامة التمييزية منتصف الشهر الماضي، بعد أيامٍ من جلسة الانتخاب «اليتيمة»، ضد «المديرة الإدارية للنقابة وكل من يظهره التحقيق فاعلاً أو متدخّلاً أو محرّضاً».
سبقت تقديم الإخبار 3 سنوات من النقاشات «بلا طائل» حول الأموال التي تصرف «عبثاً» من موازنة النقابة. كانت هناك شكوك في أن هناك شيئاً ما «مش راكب»، بعد امتناع النقيب السابق، أنطوان بستاني، عن تزويد مجلس النقابة بالتقارير المالية خلال عام 2015، علماً بأن المفترض أن يحصل ذلك كل 3 أشهر. ولكن، خلال تسعة أشهر، لم يتسلم أعضاء المجلس أي تقارير مالية عن المداخيل والمصاريف. وكانت النتيجة امتناع الجمعية العمومية للنقابة عن المصادقة على الحسابات المالية للأعوام 2015 و2016 و2017، وعدم منح المجلس براءة الذمة المالية.
أكثر من 90% من أذونات الصرف من دون قرار ولصالح جهة واحدة بلا عروض أسعار


في أيار 2015، كان اللجوء الأول إلى القضاء بعد الامتناع غير المبرر للنقابة عن تزويد المجلس بالتقارير المالية. يومها، عُيّن خبير قضائي للدخول إلى الملفات والاطلاع على ما يجري. هنا، «لقينا إنو في إشيا مش مظبوطة». غير أن الخبير لم يكمل عمله، بعد «طبخ تسوية» مع بداية عهد النقيب الحالي ريمون الصايغ، قضت بتوقّف عمل الخبير مقابل السماح لبعض أعضاء مجلس النقابة بالوصول إلى الملفات المالية. إلا أن الخرق الأول لـ«بنود» التسوية جاء من خلال تحديد صلاحية هذا الوصول، وحصره بـ«أوامر الصرف». رغم ذلك، رضي الأعضاء بدراسة أوامر الصرف العائدة لعام 2015 ونصف عام 2016 ومقارنتها مع قرارات المجلس ومكتبه، ليخرج هؤلاء بتقرير مفصّل يبيّن المخالفات المالية.
التقرير انتهى إلى خلاصة أساسها أن أكثر من 90% من أذونات الصرف (خصوصاً التجهيزات والمشتريات) لم يؤخذ بها قرار في مجلس النقابة أو مكتبه، وأن غالبيتها (تتخطّى قيمتها مئات ألوف الدولارات) صُرفت لصالح جهة واحدة، ومن دون عروض أسعار. كما تبيّن أن المديرة الإدارية تخالف النظام الداخلي والقانون من خلال الانفراد بالقرارات التي تستوجب في الأصل إجراءات إدارية، إذ حلّت محلّ المدير المالي في تنظيم أوامر الصرف والصرف، وكذلك محل المدقّق المالي، وهو ما يملك عنه المعارضون إثباتات في الإخبار المقدّم.
في أوامر الصرف، أورد التقرير الداخلي للجنة المالية المخالفات في كتيّب من 32 صفحة. القاسم المشترك بين تلك الأوامر هو ما يرد في خانة قرار مجلس النقابة، فقد تكررت عبارة «لا يوجد». وهي العبارة نفسها الواردة في خانة «العروض»، إذ «لا يوجد» استدراج عروض في أكثر من 90% من الأوامر، وهو ما يقود إلى خانة الشركة التي كانت تحمل اسماً واحداً. وكأنها لزّمت دون غيرها «بقرار أحادي من المدير الإداري»، بحسب الأعضاء.

78 ألف دولار لتبديل أثاث مكتب النقيب وقاعة الاستقبال وأربعة آلاف لزينة شجرة الميلاد


في آخر الجدول، ترد ملاحظات توضح طبيعة «الخدمة» التي صرفت لأجلها الأوامر. في تلك الخانة، ترد مثلاً كلمة «صيانة» دُفع لقاءها 15 ألفاً و963 دولاراً على أربع دفعات لشركة واحدة «لزّمت» الصيانة المفترضة من دون عقد. ومن بين أوامر الصرف «المشبوهة»، مثلاً دفع مبلغ 1150 دولاراً بدل عزل خارجي لمكتب المديرة، و13 ألفاً و150 دولاراً بدل مصاريف سفر النقيب (تتضمن إيجار غرفة ثانية في الفندق بقيمة 2693 يورو وعطورات بقيمة 962 يورو وغداء لـ15 شخصاً بقيمة 1400 دولار)، و1500 دولار لقاء 10 دعوات لحضور حفلٍ موسيقي والمشاركة في عشاء الهيئات النقابية الحرة لحزب سياسي بلا دعوة رسمية وبلا قرار مجلس نقابة، و6160 دولاراً بدل حفل غداء في ضيافة النقيب بلا قرار مجلس، و250 دولاراً ثمن موسوعة غير موجودة في مكتب النقيب، و5132 دولاراً على ثلاث دفعات للحصول على عقد للصيانة مع إحدى الشركات من دون قرار مجلس، وتجهيزات مكاتب بلا قرارات، وزينة شجرة ميلاد بقيمة 4 آلاف دولار بلا قرار أيضاً، و800 دولار ثمة جهاز «آيفون 6 غولد» للنقيب، و17 ألف دولار ثمناً لفيلم وثائقي لم يُعرض كما كان مقرراً في الاحتفالية السبعين لتأسيس النقابة. وهناك أيضاً تبديل أثاث مكتب النقيب وقاعة الاستقبال بقيمة 78 ألف دولار «بعد القيام بأعمال ترميم»، علماً بأن قرار المجلس لم ينص على الترميم، أضيفت إليها 2000 دولار أميركي «TVA».
وفي الإطار نفسه، يقسم التقرير المبالغ فئات، فمثلاً دفع مبلغ 82 ألفاً و484 دولاراً لشركة واحدة لقاء تجهيزات جرى شراؤها من دون عروض أسعار ولا قرارات مجلس. وهناك 3997 دولاراً لتجهيزات لمكتب المديرة الإدارية من دون الرجوع إلى المجلس ومن دون عروض أسعار، «منها 1089 دولاراً ثمن برادي و470 دولاراً ثمن براد».
لا تتعلق أوامر الصرف فقط بالتجهيزات، بل يفنّد التقرير أيضاً مخالفات في أوامر الصرف التي تتعلق بعقود الصيانة والتنظيفات وفي الرواتب والأجور والساعات الإضافية التي لامست في بعض الأحيان الـ200 ساعة لأحد الموظفين «بتصرف سعادة نقيب أطباء لبنان»... من بينها ساعات مسجّلة في أيام العطل الرسمية. كما سُجّلت مخالفات تتعلق بالمصاريف الخاصة للنقيب ومصاريف مكتب الضمان الذي يكبّد النقابة خسائر تصل إلى نحو 200 مليون ليرة وغرامات التأخير في صندوق الضمان والحسابات المصرفية. وهناك شق يتعلّق بأرقام الميزانية، إذ وجدت اللجنة مستندين عن الموازنة العمومية لعام 2015 بأرقام مختلفة. المستندان سحبا بناء على طلب لجنة التدقيق العام الجاري، على أساس أنهما وثيقة طبق الأصل عن سنة 2015 المالية، وتبين بعد التدقيق فيهما أنهما يحملان أرقاماً مختلفة بفوارق كبيرة جداً، إذ تغيّر الرقم ــــ بقدرة قادر ــــ من 200 مليون ليرة في أحدهما إلى 4 ملايين ليرة في الآخر!

200 ساعة عمل إضافية لأحد الموظفين بعضها مسجّل في أيام العطل الرسمية


وفي ما يتعلق بالمديرة الإدارية التي أتت من خارج النقابة بقرار اتخذ في المجلس بناءً على تسميتها من قبل النقيب بستاني، يفصّل التقرير «تدخلاتها» و«تعدياتها على صلاحيات الموظفين الآخرين» و«قراراتها الأحادية»... وراتبها الذي كان يسير تصاعدياً، علماً بأن عقد توظيفها كان مخالفاً للقانون وتالياً للقرار الذي اتخذ في المجلس، والذي قضى «بتوظيف مدير عام إداري يرفق فيه توصيف وظيفي». غير أن ما جرى أن «النقيب السابق طبق القرار منفرداً، وهو ما عرف به أعضاء المجلس عقب شهرين من شغلها المنصب». وأورد التقرير ما قدّمته المديرة الادارية من أذونات صرف في ما يتعلق بتجهيز فرع للنقابة في مدينة بعلبك، «تبيّن بعد التدقيق فيها أن موضوعها لا علاقة له بفرع بعلبك»، منها على سبيل المثال أمر صرف تبين بعد الإطلاع عليه في السجل أنه عائد لتجهيز قاعة الوليد بن طلال في النقابة، وآخر لشراء أثاث لمكتب الدائرة القانونية في مقر النقابة في بيروت...
قدّمت اللجنة التقرير إلى النقيب الصايغ لعرضه على النقاش. وطالبت الغالبية في المجلس بإقالة المديرة «بمذكرة رسمية مختومة من كاتب العدل»، لكن لا شيء من ذلك حصل، إذ بقيت محمية بالغطاء نفسه. وبعدما خرجت الأمور عن السيطرة، كلفت النقابة شركة تدقيق بعقدٍ بلغت قيمته 115 ألف دولار، على أساس دفتر شروط ينص على أنه يحق للشركة التدقيق والوصول إلى المعلومات بالطريقة التي تراها مناسبة. لكن، كانت المفاجأة بإصدار النقيب الصايغ قراراً يحصر تعاطي شركة التدقيق مع المديرة الإدارية، و«يطلب من جميع الموظفين تزويدها مباشرة بالمستندات كافة لإنجاز الأعمال المطلوبة (...)». نسف التعميم هدف شركة التدقيق التي جاءت، بحسب دفتر الشروط، للتدقيق في الموازنة وكيفية صرف الأموال، أي التدقيق «في عمل المديرة التي كانت تصرف أوامر وهمية من دون وجود قرارات مجلس».
هكذا، وجد المعارضون أنفسهم أمام مأزق الاستمرار في تغطية ما قامت به المديرة. كان المطلب إقالتها وردّ الأموال التي أخذت بأوامر صرف وهمية. كلّف وسطاء لتسوية الوضع، على قاعدة خذوا مناصب في مكتب المجلس واللجان واتركوا المديرة. قاعدة لا هدف لها سوى إبقاء «باب المغارة» مقفلاً على فساده، فأوامر الصرف ستجرّ إلى أوامر أخرى.