منذ سنتين أو ثلاث وصوت أهالي المخفيّين قسراً في لبنان والسجون السورية آخذ بالانخفاض. الأمهات أفرغن الخيمة المنصوبة أمام مبنى الإسكوا في بيروت. الخيمة التي تحوّلت رمزاً لقضيّة المعتقلين لا تزال مكانها. لكنها فارغة إلاّ من الصور المعلّقة عليها. التراجع مرتبط بلا شكّ برحيل غازي عاد. وهو مرتبط أيضاً برحيل أمهات كثيرات ممن حملن القضيّة لسنوات. وصول الرئيس ميشال عون إلى سدّة الرئاسة لم يدفع بالقضية إلى الأمام، بعكس آمال الكثيرين، وهو المعني بشكل رئيسي باختفاء قسم من عناصر كانوا تحت إمرته في حرب 13 تشرين. انكشاف الحقائق وعودة من يحتمل أنهم موجودون في السجون السورية ونبش المقابر الجماعيّة، ليس بالتأكيد من مصلحة رموز السلطة السياسيّة وأمراء الحرب في لبنان، وهو السبب الأكثر إقناعاً لتنصّلهم من وصول هذه القضيّة إلى خواتيمها التي ليس بالضرورة أن تكون «سعيدة». الهروب من وجع الأهالي والأمّهات ودموعهنّ وصرخاتهنّ هو الحلّ شبه الوحيد الذي اتبعته السلطات المعنيّة إلى اليوم... علّها بالهرب وانقضاء الوقت وهدّ حيل الأمهات تكسب رهانها في نسيان القضيّة وإغلاق هذا الملف
غازي عاد: غياب الـ«داتا بايس»


قَصم رحيل غازي عاد ظهر قضية المختطفين والمفقودين... كان «الداتا بايس، مرجع القضية، يحفظ كل شيء في رأسه من الأسماء إلى التواريخ» هكذا يعرفه وديع الأسمر رئيس المركز اللبناني لحقوق الانسان. ولئن كان اهتمام عاد بالقضية شكلاً من أشكال النضال «الطوباوي» فإن من الصعب تعويض غيابه، وهذا أمر يعترف به كل من رافقوه وعرفوه. نضاله في سبيل هذه القضية لم يكن مشروطاً بعلاقته بأي من المختطفين أو وجود صلة قربى له بأحدهم. في عام 1988، كانت البداية مع الحشود الشعبيّة الصاعدة إلى قصر بعبدا دعماً للجنرال ميشال عون حين بدأ غازي بجمع الداتا من عائلات من ضمن الحشود بلّغت عن اختفاء أبنائها. دوّن وجمع معلومات من الأمهات حتى أسس «سوليد» أو «لجنة دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين» عام 1990 مع فاضل الطيّار (اختطف شقيقه عام 1978). وتوالى البحث حتى ظهرت القضية في الإعلام في 1994، «لكن في 2005 وبعد خروج الجيش السوري كثر المحبّون» يقول الأسمر. ويضيف: «كان غازي موسوعة ودقيقاً في عمله ولولاه لمات الملف. عنيد وعناده نفع إيجاباً». يتذكّر مراحل كثيرة مرّا بها من اتخاذ قرارت في غضون دقائق بزيارة الأهالي لسوريا والانتظار أمام باب قصر المهاجرين: «الآن أقول كنا مجانين. نصعد إلى بوسطة مع شعارات ونصل إلى الشام. لولا غازي ما كنا عملنا هيك».

صونيا عيد: لا تزال تنتظر جهاد


كان جهاد عيد واحداً من العسكريين الذين اختفوا في حرب 13 تشرين 1990، ولم يكشف عن مصيره إلى اليوم. كان جندياً في صفوف الجنرال عون، «اختفى بالقرب من منشرة أبو جودة في السان تريز في الحدت وكان في العشرين من العمر». هذا ما تذكره ناتالي، شقيقة جهاد التي تصغره بعام واحد. تحوّلت والدته صونيا عيد من أمّ تبحث عن ولدها، إلى مناضلة تبحث عن أولاد غيرها ورئيسة للجنة المعتقلين في السجون السورية. تبلغ صونيا اليوم 70 عاماً وعيونها ما برحت مصوّبة نحو باب قد يدخل منه جهاد في أي لحظة. تتذكر ناتالي زيارة غازي عاد لهم عام 1996، يوم عرّفهم بـ«سوليد» وبدأت مرحلة جديدة من البحث: «كبرت أكثر قضيتنا مع غازي وزرنا عواصم أوروبية والأمم المتحدة»… رغم تضارب المعلومات والإنكار الرسمي واستغلال المعلومات عن المخفيين قسراً في سوريا للحصول على أموال من عائلاتهم، لا يزال أهلهم يتمسّكون بما بقي من أمل. لا يعوّلون كثيراً على «اقتراح قانون حقوق ذوي المفقودين بالمعرفة» لأنه، في رأي ناتالي، «لا يقدم أو يؤخر في القضية. أبناؤنا وأشقاؤنا مخفيون قسراً في سوريا ونحن متأكدون من وجودهم هناك وليس في لبنان… بينما القانون يشمل الأراضي اللبنانية ولا صلاحيات له خارجها». تقول ناتالي: «بموت غازي مات الملف. بعده انفرط عقد لجنة أهالي المفقودين في سوريا».

وداد حلواني: النضال العقلاني


بدأت وداد حلواني رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان قصتها مع القضية حينما اختطف زوجها عدنان من بيتهما في رأس النبع عام 1982، ومنذ ذلك الحين وهي تطالب بملف واحد لجميع المخفيين «في لبنان واسرائيل لدينا مختطفون أكثر مما يوجد في سوريا» تقول. تنتظر مثل كثيرات عرض اقتراح قانون حقوق ذوي المفقودين بالمعرفة على الهيئة العامة للمجلس النيابي «لإقرار هذا الاقتراح القانوني الذي دخل المجلس عام 2014 ومرّ على لجنتي العدل وحقوق الإنسان الممثلة فيها كل الكتل النيابية. وعليه فإنه لا خلاف في هذا الموضوع لدى الأطراف السياسية فلم لم يقرّ القانون إلى اليوم؟» تسأل. ويهدف القانون إلى تكريس حق أفراد أسر المفقودين والمخفيين قسراً بمعرفة مصير أبنائهم، وإلى إنشاء هيئة رسمية تتولّى كامل الصلاحيات اللازمة لإدارة هذا الملف. تؤكد وداد «أن مصير كل أولئك الناس يستدعي عقد جلسة استثنائية للبرلمان»، ومن هنا تشير إلى «أن أهالي المفقودين يشكلون كتلة ناخبة في كافة الدوائر ولن يمنحوا صوتهم إلا لمن يتبنى اقتراح القانون ويلتزم بالسعي إلى إقراره». تختصر وداد سنوات البحث ببساطة قائلةً: «بدنا ياهم أحياء أو أموات، أحياء وينن، أموات بدنا عضامن».