15 عاماً من القتل. انتهت الحرب الأهلية. بدأت ورشة إعمار المدينة. كان كل شيء يسير وفق «المقاييس». لكن، ثمة ما راح إلى غير رجعة: الروح. بعد كل تلك السنوات، فقدت بيروت ألفتها. صارت غريبة وبعيدة. بعيدة عن سكانها الذين يتحدثون عنها، وكأنها مدينة أخرى. اليوم، تمرّ 43 سنة على تلك الحرب. لا زالت الغربة هي نفسها في «وسطها». ربما، ألغيت الحواجز «المادية» للميليشيات. لا شيء آخر. أما الحواجز السيكولوجية والاقتصادية والاجتماعية، فقد ترسّخت مع الوقت.قبل 1975، كانت منطقة وسط بيروت نقطة تجمع وسائل النقل المشترك. وكان الكل مجبرين على انتظار باصاتهم هناك لتقلّهم إلى وجهاتهم. الكل تعني لبنانيين كثراً كانوا يجتمعون في مكانٍ واحد. لكن، هذا كان «أيام زمان»، وتحديداً في ستينيات القرن الماضي، عندما كانت الـ«داون تاون» تسمى «ساحة البرج»، وكانت فيها أسواق للخضار والسمك والذهب وأشجار نخيل ومبان ذات ألوان دافئة. اختفت ملامح ساحة البرج، وتحوّلت الأسواق الى Souks. هدم «الملّاكون الجدد»، من بين ما هدموه، الذاكرة الجمعية. لم تعد الساحة تجمع الناس. استحالت منطقة ارستقراطية لا مكان للناس «العاديين» فيها.
كان من المفترض أن تكون منطقة وسط بيروت حيّزاً عاماً. لا بل أكثر من ذلك، ملكية عامة. لكن المخطط اتجه نحو مكانٍ آخر. صار شكل المدينة كالدولاب: ممتلئة الأطراف وفارغة من قلبها. الوسط «تفرطع». أقصى ما يمكن للناس «العاديين» فعله هناك هو التقاط الصور أمام المباني الفخمة والجلوس على الاسفلت النظيف، دون أن يجرؤوا على شراء أي شيء. هذا المكان «ليس لنا» ــــ يقولون ــــ وإن أرادوا في يوم من الأيام التطفل، تسكّعوا في شوارعها الميتة. لا اكثر من ذلك. المدينة التي تحولت إلى صورة ممتازة عن العمارة القامعة والباردة بعد الحرب الأهلية، لا تشبه نفسها ولا سكانها. وسط المدينة للأغنياء، وللأرستقراطيين الطارئين.
محمود، أحد سكان منطقة بشارة الخوري انقطع عن زيارة وسط البلد منذ سنوات طويلة. قبل تلك القطيعة، كان كلما أراد أن يروّح عن نفسه يقصد المكان. كان ذلك قبل الحرب الأهلية. «كنت حينها شاباً وسيماً، وكانت المدينة جميلة». منذ لحظة الحرب المشؤومة في 1975، لم تطأ قدماه الساحة. يرى بعده عن ذلك المكان موازياً لبعده عن بعض «المعارف الأعزاء على القلب» خلال الحرب الأهلية التي قسمت بيروت قسمين: شرقي وغربي.
العلاقة بين وسط المدينة والناس مقطوعة لأسباب عمرانية واقتصادية واجتماعية وسياسية


تقول المخطّطة المدينية، جنى نخال، إن ما آل إليه وسط المدينة «لم يكن مفاجئاً ولا غير متوقع. فالعلاقة بينه وبين الناس مقطوعة لأسباب عمرانية واقتصادية واجتماعية وسياسية». وسط بيروت اليوم «Exclusive»، أي «حصري»، للأغنياء. والمصطلح مستخدم بشكل صريح ووقح من قبل شركة «سوليدير»، التي «نعلم جميعاً كيف وأين ومتى بدأت، وما وضعته في الواجهة من أهداف لها وما كانت تنوي فعله في الواقع». سلّعت تلك الشركة المساحات العامة. عمرانياً، «المساحات في منطقة وسط بيروت غير عامة مطلقاً، وهي مستملكة من قبل سوليدير، ويمكنها أن تمنع حتى العدد القليل جداً من الناس الذين يرتادونها من الدخول اليها». حتى البنى التحتية في الوسط مختلفة «كماً ونوعاً عن بقية الشوارع في بيروت». تقول أكثر عن «اسعار العقارات وكلفة استئجارها والمطاعم ذات الكلفة العالية ومحال الثياب وغيرها، وهي كلها موجهة لأشخاص من فئة اجتماعية معينة». كل تلك المظاهر تجعل من العلاقة بين الناس ووسط المدينة ومحيطها مبتورة. ثمة أمر أخير ومؤلم: بيروت لا وسط لها. تحسم نخّال. اما لماذا؟ فلأن «وسط المدينة يحدد على أنه كذلك تبعاً لوظيفة يؤديها (وجهة للناس ومركز لنشاطاتهم وتجمعهم مثلاً)، وليس كمجرد موقع جغرافي». أكثر من ذلك، هناك خلاف على إمكانية اطلاق مصطلح «مدينة» على بيروت. تقول نخال هازئة «لسنا متأكدين من كون بيروت مدينة، فكيف نكون متأكدين من وجود وسط لها؟».
لم تستطع طفرة البناء كنس ما تسببت به الحرب الأهلية من دمار، بل زادت الأمر سوءاً، وزادت معه من حدة الانقسام الذي فرضته... على هيئة بناء يحاول محاكاة العمارة الغربية الغريبة عن الناس، والتي لا مبرر لإحلالها بينهم.
لم تتخذ بلدية بيروت خطوات واضحة في هذا الشأن، وإن كان العضو في البلدية، آغوب تريزيان، يعتبر أن حال وسط البلد اليوم «بات لا يحتمل، وعلى الصوت أن يصبح مسموعاً». يضيف: «حتى السياح الذين يأتون إلى بيروت هم تقريبا فقط من ميسوري الحال، الأمر الذي يعدّ مستهجناً، لأن جميع الدول تستقبل السياح من مختلف الطبقات. أن يستقبل لبنان الأغنياء فقط، فهذه مشكلة». يؤكد أن «الوسط يجب أن يكون مقسماً إلى عدة مستويات ليناسب جميع الفئات الاجتماعية، لتكون جميعها حاضرة وقادرة على المشاركة في العملية الاقتصادية، لا التفرج فقط». ببساطة مفرطة، يعتبر ترزيان أنه يجب أن يصبح وسط المدينة على شاكلة «مول كبير، يحوي سلعاً مختلفة ومتفاوتة في أسعارها تناسب جميع المستويات المعيشية». ويشدد على دور البلدية في إحياء الوسط الميت، معتبراً أن الاحتفالات «المجانية» التي تقيمها خلال عطل نهاية الاسبوع هي إحدى الخطوات التي دخلت حيّز التنفيذ.
لكن، هل ذلك كاف؟ هل عادت الروح؟ الحرب انتهت، لكنها تركت ما يحلّ محلها: الغربة. غربة الناس عن مدينتهم. وإن كانوا اعتادوا هذا الأمر، إلا أن ذلك لا ينفي أن قلب المدينة يبقى من دونهم بلا ألفة.