تُساهم التشريعات المُقترحة لمواجهة التحرّش الجنسي في سدّ الثغرات القانونية التي تعرقل مسار التصدّي لمختلف أشكال العُنف المنهجي ضدّ المرأة، وتلعب دوراً بارزاً في «كسر» الصمت الإجتماعي عبر إعطاء التحرّش بُعداً اجتماعياً جدّياً يستدعي رسم سياسات لمواجهته. إلّا أن هذه التشريعات التي تتمثّل بمشروعي قانون لتجريم التحرّش الجنسي (مُقدّمين من النائب غسّان مخيبر ووزير الدولة لشؤون المرأة جان أوغاسبيان)، لا تزال عاجزة عن حماية الفئات المهمشة والمستضعفة (التي تعاني أكثر من غيرها)، وعن تقديم فهم شامل للتحرش بوصفه شكلاً من أشكال العُنف والتمييز المُمنهج القائم على أساس النوع الإجتماعي. هذا ما خلُصت إليه الباحثة في برنامج «الفاعلون في المجتمع المدني وصنع السياسات»، في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت، مُنى خنيصر، في دراستها لمشاريع القوانين الخاصّة بالتحرّش الجنسي في لبنان.
توصّلت خنيصر، عبر تحليلها لمشروعَيّ القانونين، إلى أن سياسات التحرّش صيغت بـ «حياد كاذب»، وبمقاربة «أخلاقية» تنظر الى التحرّش كفعل يمسّ «الشرف» و«الكرامة». ولم تأخذ في الإعتبار عدم تكافؤ القوة بين الضحية والمُتحرّش في ما خصّ آليات التقاضي، فضلا عن أنها لم تُحرّر الضحية من عبء إثبات الضرر النفسي الناجم عن فعل التحرّش. كما بقيت قاصرة عن حماية المستضعفات كالعاملات في الخدمة المنزلية.

مُقاربة أخلاقية
وأوضحت خنيصر أنّ سياسات التحرّش تُصاغ بطريقة قانونية محايدة تعطي انطباعاً بوجود «عقلانية» كاملة، في حين أنه «لدى تطبيق نصوص السياسات المُتعلّقة بالتحرّش الجنسي، غالباً ما تخضع للتفسيرات التي كثيراً ما تُعطي امتيازات للذكور. ومع ذلك لا تزال سياسات التحرّش الجنسي تُصاغ بما يُسمى الحياد الكاذب الذي يُعطي الانطباع بأن سياسات التحرّش الجنسي هي سياسات تقنية خارج تيّار الخطاب والتأويل». وهذه «العقلانية» تُغفل التجارب المُحمّلة بالعاطفة التي خاضتها النساء المتعرّضات للتحرّش الجنسي.
في سياق آخر، لفتت الدراسة الى أنّ اختيار قسم «الأخلاق والآداب العامة» من قانون العقوبات لادراج سياسات التحرّش الجنسي ضمنه يعكس فهم المُشرّعين للتحرّش بالاعتبار «الأخلاقي». فالمُقاربة الأخلاقية تفصل التحرّش الجنسي ضدّ المرأة عن طبيعته المنهجية وتضعه في إطار الضرر الفردي. وهذه المقاربة تبعد فكرة التعويض على الضحية وتحوّل التحرش إلى الآداب والأخلاقيات العامة التي تخضع لتأويلات اجتماعية مختلفة ومُتبدّلة.

عدم التكافؤ
ونظراً للعلاقات الهرمية التي تفرضها الاطر التنظيمية في المؤسسات وأماكن العمل، قد تخضع الشكاوى ضدّ التحرّش الجنسي في هذه الأماكن لتضارب مصالح، «ما يعني أنه يجب الأخذ في الاعتبار عند صياغة أحكام السياسات مصالح الموظفين او الطلاب وعقبات محتملة قد تواجه التعويض» مثل أن تتمنع بعض النساء اللواتي تعرّضن لحالات من التحرّش عن التبليغ عن الحوادث لتجنب التداعيات السلبية المتمثلة بفقدان الوظيفة وغيرها. ففي مشروع أوغاسبيان، مثلاً، ورغم أنه استثنى الحاجة إلى إذن المدير لرفع دعوى تحرّش، إلا أنه «أغفل علاقات القوة غير المتكافئة أو الهرمية التي ترتكز عليها العلاقات في أماكن العمل».
ورغم أن المشروع نفسه يضمن حماية الضحايا والشهود الذي يُبلّغون عن الحوادث، «إلا انه لم يُحدّد آليات واضحة لتقديم الشكاوى ومعاقبة المُتحرّشين. ولم ينص على اتخاذ تدابير ضد المدراء الذين يرتكبون التحرّش أو الذين يفشلون في اتخاذ التدابير اللازمة ضدّ المتحرشين محيلاً المسألة الى العدالة الجنائية».
وترى الدراسة أن مُعالجة هذه المُعضلة تتطلّب إضفاء الطابع اللامركزي على آليات القرار الداخلي وإحالتها الى جهات أُخرى لمعالجة الشكوى كهيئات خارج التسلسل الهرمي التنظيمي (مجالس العمل التحكيمية مثالاً).
وفي السياق نفسه، انتقدت الدراسة تركيز المشروعين على قانون العقوبات واللجوء الى العدالة الجنائية، وإغفالهما مبدأ «الوسيط» (أو الجهات الوسيطة) لتسوية حالات التحرّش. ففي رأي خنيصر، اللجوء الى الهيئات الوسيطة والخارجية يُعطي تسوية حالات التحرّش «قيمة أكبر لتجربة الضحايا مع تقليل عبء الاثبات والتكاليف المادية والعاطفية عن الضحايا في اماكن عملهن». وخلصت الى أن مشروعي القانونين لم يُخفّفا عبء الإثبات على ضحّية التحرّش الجنسي «مع العلم أن الضحايا يجدون في معظم الحالات صعوبة في إثبات الضرر النفسي الناجم عن التحرش أو في تقديم أدّلة عن هذا الضرر».

التمييز والتحرّش
لفتت الدراسة إلى أنّ التشريعات المناهضة للتمييز العنصري تتقاطع مع التمييز القائم على أساس النوع الإجتماعي، «وبالتالي على المشرعين أن يأخذوا في الاعتبار البُعد العنصري للعنف والتحرّش». وأشارت إلى ان التشريعات المقترحة لا تزال قاصرة عن حماية «المُستضعفين». ورغم أنّ مشروع مخيبر أخذ التمييز العنصري في الاعتبار، «إلّا أنه قصّر في تفصيله وتأمين قوانين للعاملات الأجنبيات في الخدمة المنزلية الذين لا يحميهن قانون العمل بينما يتعرّضن للعديد من مستويات الضعف بما فيها حالات خطرة من التحرّش الجنسي والاستغلال».


تعريفات التحرّش
مشروع القانون الذي تقدّم به مخيبر عام 2014، طُرح أمام مجلس النواب في كانون الثاني عام 2017 تحت خانة قانون معجّل مكرّر. فيما مشروع قانون أوغاسبيان وافق عليه مجلس الوزراء في آذار 2017 تزامناً مع اليوم العالمي للمرأة. لكن المشروعين لم يُقرّا بعد ولا يزالان قيد الإنتظار.
يدعو مشروع مخيبر الى إدراج سياسات التحرّش الجنسي على مُستوى قانون العقوبات. وهو يُعرّف التحرّش الجنسي بأنه يشمل «كل من أقدم بشكل صادم أو مُلحّ أو مُتكرّر على فرض أقوال أو أفعال أو إيحاءات ذات طابع جنسي أو ذات طابع عُنصري، على شخص دون رضاه أو من دون إيحاء بالترحيب، فأدّى ذلك الإعتداء على كرامته إمّا بسبب طبيعتها أو ظروفها المهنية أو الضاغطة أو المُحرجة».
أمّا مشروع أوغاسبيان فيدعو الى إدراج سياسات التحرّش الجنسي في قانون العمل وقانون العقوبات. ويُعرِّف التحرّش الجنسي بحسب قانون العمل كالتالي: «يُحظّر لجوء أي كان، أكان صاحب عمل أو أجير على حدّ سواء إلى التحرّش سواء عبر الكلام المُثبت أو الكتابة وبأي وسيلة من وسائل الإتصال أو ممارسة الضغوط أو التهويل أو إصدار الأوامر بهدف الإستحصال على خدمات ذات طبيعة جنسية سواء لمنفعته أو لمنفعة الغير».
وبحسب قانون العقوبات، يُقدّم المشروع تعريفاً ثانياً للتحرّش الجنسي في المادة 535 من قانون العقوبات في قسم «الأخلاق والآداب العامة» على الشكل التالي: «التحرّش الجنسي هو القيام بالكلام أو الكتابة، وبأي وسيلة من وسائل الإتصال باستخدام كل ما يحمل دلالات جنسية تنال من شرف وكرامة الضحية أو تنشئ تجاهها أوضاعا عدائية أو مهينة».