خلف "سور أنفا العظيم"، كما يسميه حافظ جريج، أسست الشعوب القديمة (التي استوطنت هذا التل الاستراتيجي الممتد في البحر بطول ٥٠٠ متر وعرض ١٠٠ متر) مدينة نحتتها وحفرتها في صخره القاسي بالمطارق والأزاميل وقطعت منه حجارة السور وأعمدة المعابد ورحى المعاصر وحفرت خزانات الماء والزيت والنبيذ والكهوف والسراديب والأدراج والأقنية ومنحدرات إنزال السفن إلى البحر… وأنشأت من هذه المقالع ثلاثة خنادق كبيرة لتكون من تجهيزات هذا الحصن المنيع في الخطة الدفاعية وفِي صناعة السفن وفِي إسكان الجنود. وفِي أيام السلم كانت قلعة أنفا محطة للصناعة والتجارة البعيدة عبر البحار.
قلاع النفايات

كل هذه الأهمية العظيمة في السلم وفِي الحرب ما كانت لولا السور العظيم الذي كان يحفظها من الأنواء ومن الأعداء، إلى أن حدثت زلازل القرن السادس الميلادي (٥٥١م- ٥٥٥م) وفعلت ما عجزت عنه جحافل الأعداء والأمواج العالية.
هذا كان في الماضي، أما اليوم فما الذي يبنيه الجيل الجديد؟ بدل القلاع والحصون والمدن المحصنة، بنينا مطامر للنفايات مكان القلاع، في صيدا ثم في الكوستا برافا وبرج حمود والجديدة... وغداً في طرابلس. وقد اتخذت الحكومة مؤخراً قراراً بتوسيع هذه المطامر، كشاهد على إنجازات هذا العهد وحكومته الأولى!

التآكل بدل الصمود

إذا كانت القلاع الصخرية لم تصمد على شواطئنا تاريخياً، فما سيكون مصير المطامر الشاطئية غير التآكل والانهيار!؟
يؤكد خبراء "ائتلاف إدارة النفايات"، إن مطامر النفايات الشاطئية تواجه مشاكل إضافية عن التي تقام داخل الأراضي، تتمثّل في تعرّضها للطوفانات والتآكل مع اصطدامها بالأمواج العالية، مما يسبّب تسرّب مواد خطرة إلى مياه البحر والشواطئ المحيطة. وإذا لم تتم إدارة مطامر النفايات الشاطئية على نحو جيد، فإن العوامل الطبيعية من تغيّر مستوى المياه والعواصف والتآكل يمكن أن تؤدي إلى تلوث يؤثر سلباً في النظم الإيكولوجية الساحلية، على المديين القريب والبعيد.

هل نقول وداعاً للسباحة؟

كما أن الشاطئ اللبناني أصبح مكاناً خطراً للسباحة، إذ إن نسبة التلوث فيه أصبحت مرتفعة بشكلٍ صارخ، وذلك بعد أن أخذ الائتلاف منه عينات، وتبيّن بعد الفحص المخبري أن نسبة البكتيريا المسماة E. coli and streptococcus bacteria والتي يجب أن لا تتجاوز ١٠٠ في الـ ١٠٠ مللتر، تبيّن أنها تجاوزت ٤٠٠ والتي من شأنها أن تسبّب أمراضاً في الجهاز التنفسي والعين والأذن وكذلك الكبد. وبالتالي فإن إنشاء وتوسيع هذه المطامر يخالف اتفاقية برشلونة، إذ من شأنه أن يعرض حوض البحر المتوسط، ليس في لبنان فقط إنما شواطئ دول الحوض بكاملها لكارثة بيئية.
بحسب الائتلاف أيضاً، يشكل هذا المطمر خطراً على حركة الملاحة الجوية في مطار بيروت بسبب تكاثر الطيور حول المطمر. وفي حال ارتفاع النفايات إلى علو أكثر من 15 متراً ، يمكن أن تنتج منه غازات يمكن أن تتجمع في باطن الأرض وتسبّب انفجاراً. وقد أعربت منظمة الطيران الدولي عن مخاوفها من هذه المخاطر سابقاً.

الطعن أمام مجلس الشورى

قدّم ائتلاف إدارة النفايات بتاريخ 08/03/2018 أمام مجلس شورى الدولة طعناً بالقرار رقم 45 الصادر عن مجلس الوزراء بتاريخ 11/01/2018 القاضي بالموافقة على اقتراح مجلس الإنماء والإعمار توسعة مطمر الغدير، أي الكوستابرافا بدون القيام بدراسة تقييم الأثر البيئي. علماً أن دراسة تقييم أثر بيئي قد قُدّمت بعد فترة إلى وزارة البيئة إلا أنها لم تحظَ بموافقة وزارة البيئة حتى اليوم وكان لوزارة البيئة ملاحظات كثيرة على المطمر (يمكن مراجعة مراسلات وزارة البيئة في هذا الإطار المسجلة في وزارة البيئة تحت الرقم 6564/ب/2016). إلا أنها عادت وبلعتها بعد أن وافق وزير البيئة على توسيع المطمر! كما أن توسيع المطمر يتطلّب دراسة تقييم أثر بيئي وفقاً للمرسوم 8633/2012 (أصول تقييم الأثر البيئي) والتي لم تحصل قبل الموافقة على التوسيع!


أية آثار في الجو والبحر؟

لم تجرِ وزارة البيئة ولا الحكومة حتى الآن أي تقييم للأثر البيئي الملزم مسبقاً وهو أمر يتعارض والمادة ٥٨ من قانون البيئة، ما يضع الأمن البيئي والصحي في مهبّ الريح، ويخالف الأحكام القانونية والنظامية النافذة. كما يشير الائتلاف إلى أن أية خطة للإدارة البيئية لم تنفّذ ومن ضمنها مراقبة الآثار البيئية للمطمر على مياه البحر والحياة البحرية وآثار انبعاث الغازات منه... فضلاً عن أن مركز علوم البحار التابع لمجلس البحوث العلمية لم ينشر نتائج فحوصات عينات مياه البحر التي يأخذها ويحلّلها بشكل دوري.