تقوضت قطاعات لبنان الإنتاجية منذ نهاية الحرب الأهلية في عام 1990. وعلى غرار قطاعات أخرى مهمشة، ضعف القطاع الصناعي، وبات يشكل نسبة هامشية من الاقتصاد، ويُعزى ذلك بنحو كبير إلى تاريخ من فرص التنمية الضائعة. وقد انخفضت حصة القطاع الصناعي من مجموع الناتج المحلي الإجمالي على نحو مطّرد من 24% في عام 1997 إلى 14% في عام 2016 (1).
وفي سياق متصل، يستمر لبنان بتسجيل العجز الأسوأ في الميزان التجاري في المنطقة، ويعود ذلك أساساً إلى تعويله على الواردات، وضعف قنوات التصدير. فقد سجّل العجز في الميزان التجاري، الذي بلغ 15.65 مليار دولار بحلول كانون الأول 2016، زيادة سنوية بنسبة 3.56% (BLOM-INVEST). كذلك شهدت الصادرات تقلّبات في السنوات القليلة الماضية، فسجّلت ارتفاعاً من 4.49 مليارات دولار في عام 2008 إلى 5.11 مليارات دولار في عام 2012، ثم انخفاضاً إلى 2.44 مليار دولار في عام 2015. وقد شهد القطاع الصناعي تقيّداً في النمو بفعل التطور المحدود في السياسة الصناعية، والتغطية المحدودة بالتيار الكهربائي، وكلفة الإنتاج العالية، بالإضافة إلى التأثيرات الناتجة من النزاع في سوريا. وقد كان لهذا الأخير تأثير واضح بمستوى تقليص الاستثمارات في البلاد، ورفع كلفة الصادرات بفعل إغلاق ممر لبنان الوحيد للتصدير براً إلى المنطقة.

إمكانية إحراز تطور

بالرغم من هذه الصورة التشاؤمية ظاهرياً، يبدو واضحاً عند النظر إلى البيانات الجزئية على خريطة فضاء المنتجات (product space) (2)، أنّ الوضع لم يكن قاتماً إلى هذه الدرجة. فبين عام 2000 وعام 2008، تمكّن القطاع الصناعي اللبناني من التعافي، وسجّلت الصادرات ارتفاعاً مطرداً من 742 مليون دولار في عام 2000 إلى 2.58 مليار دولار في عام 2008. وقد ترافقت هذه الزيادة المطردة بارتفاع في مستوى تعقيد (sophistication) الصادرات، تظهر واضحة بالنظر إلى تحسّن مرتبة لبنان في فضاء المنتجات. فقد ارتفع العدد الاجمالي للمنتجات الصادرة من 898 في عام 2000 إلى 978 في عام 2008. وعلى قدر متساوٍ من الأهمية، تُظهر مقارنة توزيع هذه المنتجات أنّ عدد المنتجات الأساسية سجّل ارتفاعاً نسبته 21% (من 307 في عام 2000 إلى 370 في عام 2008)، فيما لم يرتفع عدد المنتجات الطرفية إلا بنسبة 3% (من 591 منتجاً في عام 2000 إلى 608 في عام 2008)، ما يعكس زيادة في تطور الصادرات اللبنانية.
غير أنّ أكثر ما يلفت، أنّ 40 من أصل 52 سلعة منتجة حديثاً في عام 2008 كانت نتيجة «وثبات طويلة». من بينها نجد المصنوعات الخزفية، وملونات الزجاج، والمواد المُعدلة للشفافية، والأصباغ، والمينا (HS:3207)، وماكينات الحلاقة، وماكينات حلاقة الشعر (HS:8510)، والتركيبات المعدنية الأساسية للمفروشات، والأبواب والسيارات (HS:8302). وتشير الوثبة الطويلة إلى أنّ سلعاً جديدة أُنتجت بالرغم من غياب المعرفة أو القدرات اللازمة، وذلك وفقاً للبيانات المجمّعة من سلة الصادرات الموجودة. وتشير المؤلفات إلى أن ظواهر مماثلة تُلاحظ في بلدان حصلت فيها تغييرات اقتصادية هيكلية. في هذا الصدد، يشكّل لبنان شذوذاً عن هذه النظرية. فبالرغم من غياب استراتيجية تقودها الحكومة لدعم النمو الصناعي، تمكّن القطاع من تحسين مكانته الصناعية من خلال إنتاج منتجات متطورة جداً بين العامين 2000 و2008.

صدمات الطلب المواتية للبنان

بغية التوصل إلى فهم أفضل لتنوّع الصادرات في لبنان، مع الأخذ بالاعتبار مجالات الإنتاج البالغة التطور، وغياب تغيير هيكلي تقوده سياسة، تعزو الأدبيات التغيّرات في مستويات التطور في بلدان مختلفة إلى سببين رئيسيين: صدمة إنتاجية أو صدمة على مستوى الطلب. وفيما لا تزال الشركات اللبنانية تعاني تكاليف إنتاج باهظة وغياب مهارات مناسبة، حفّزت صدمات الطلب، أي اكتشاف أسواق جديدة، بنحو كبير زيادة التعقيد (sophistication) في الصادرات. أضف إلى ذلك أنّ قدرة السوق المحلية الصغيرة التي بلغت حدّ الإشباع تدفع المنتجين الذين يطمحون إلى توسيع إنتاجهم وتنويعه إلى التطلّع إلى الخارج. بالتالي، تستفيد الشركات اللبنانية من خبراتها، ومهاراتها في مجال ريادة الأعمال، وعلاقاتها مع الأسواق الأجنبية لتخطي عدم اليقين المحيط بالطلب. من عام 2000 وحتى عام 2008 مثلاً، وُقِّعَت عدّة اتفاقيات تجارية بين لبنان وبلدان أجنبية أو جمعيات تجارية، على غرار منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى (GAFTA). وقد نتج من هذه الاتفاقية ارتفاع كبير في حجم الصادرات، إذ استجاب المصدرون لازدياد فرص الطلب في الدول العربية.

المحافظة على ارتفاع إيجابي في التعقيد (sophistication)؟

بالرغم من فترة التفاؤل التي امتدت من عام 2000 حتى عام 2008، وكانت مؤشراً على موجة إيجابية من التصنيع في لبنان، كان من شأن النقص في الدعم الحكومي وغياب صدمة إنتاجية مكمّلة لصدمة الطلب أن يُصعَّب على الصناعيين المحافظة على ميزة مقارنة.
أضف إلى ذلك أنّ موقع لبنان في فضاء المنتجات تراجع مع انخفاض إجمالي عدد المنتجات المصدّرة من 978 في عام 2008 إلى 896 في عام 2015. فمن عام 2008 إلى عام 2015، أوقف لبنان إنتاج 82 منتجاً كان قد وصل إلى مستوى الاحتراف في إنتاجها في عام 2008. ويجري تحليل ما سبق على أنّها فرص ضائعة تتطلّب إيلاءها اهتماماً خاصاً، إذ قد تنذر بوجود إخفاقات في السوق.
ويمكن مقارنة الطفرة في التطور خلال الفترة الممتدة بين عام 2000 وعام 2008 بوضع القطاع خلال فترة ما قبل الحرب. ففي ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، شهدت الصناعة فورة مماثلة، غير أنّها أخفقت كذلك في تحقيق المزيد من التطور، ويعود ذلك أساساً إلى غياب السياسات المساندة الملائمة. مثلاً، في عام 1975، كان قطاع الصناعة اللبناني قد بلغ مستويات احترافية في تصنيع 5 من أصل 10 من المنتجات الوازنة. وعليه، سجّل مستوى القدرات في الاقتصاد، الذي جرى قياسه على أساس مؤشر التعقيد الاقتصادي (Economic Complexity Index)، الحدّ الأعلى في عام 1968. وقد بلغ ترتيب لبنان ذروته في عام 1975، حين صُنّف في المرتبة 21 في العالم. بعدئذٍ، اتخذ التعقيد الاقتصادي في البلاد اتجاهاً إجمالياً تنازلياً، حيث بلغ مرتبة منخفضة، هي 44 في العالم في عام 1998. ثم بحلول عام 2008، تحسّن ترتيب البلاد مجدداً، فبلغت المرتبة 31 عالمياً.

دعوة إلى اتخاذ إجراءات: استراتيجية صناعية خاصة بالقطاع

مع تاريخ حافل بفرص التنمية الضائعة، يحتاج لبنان إلى سياسة صناعية داعمة قادرة على تأمين استفادة على النحو الأمثل من فرص التصنيع. وتُعدّ هذه الاستراتيجية أساسية لتطوير البلاد من أجل استحداث وظائف عالية التعقيد (sophistication)، وتفادي هجرة الأدمغة. ويجب على صانعي السياسات، من خلال استخدام فضاء المنتجات كبوصلة، أن يصمموا مبادرات محددة ترشد إنتاج منتجات متطورة في المجالات التي يتمتّع لبنان فيها بميزة مقارنة. وتتمثل إحدى السبل لصياغة وتنفيذ سياسات مماثلة في آلية مستدامة من الحوار بين القطاعين الخاص والعام، من شأنها أن ترفع مستويات المساءلة والشفافية على مستوى الجهود والإجراءات الهادفة إلى تعزيز الصناعة اللبنانية.
لهذه الغاية، يعقد المركز اللبناني للدراسات طاولات مستديرة لتسهيل الحوار بين القطاعين العام والخاص، بين وزارة الصناعة وجمعية الصناعيين اللبنانيين. ويستخدم المركز اللبناني للدراسات أبحاثاً مرتكزة على أدلة لتشجيع الصناعيين وصانعي السياسات على تخطي الشواغل الضيقة المرتبطة بالمعاملات والانتقال إلى مسائل وفرص أوسع نطاقاً لتغيير السياسات، وتحقيق نمو موجّه نحو الصادرات، وإجراء إصلاح مؤسساتي. وقد سمح ذلك ولا يزال للمشاركين في الحوار بالتوصل إلى فهم أفضل لشكل ونوع مزيج الأطر القانونية، والقواعد التنظيمية، وخدمات التدريب على العمل، وقواعد النفاذ إلى الأسواق، والبنى التحتية، الذي من شأنه أن يعزّز التنوع الاقتصادي في ظل مجالات بالغة التطور.

*المدير التنفيذي للمركز اللبناني للدراسات
**باحثة اقتصادية في المركز اللبناني للدراسات


(1) استفاد هذا المقال من الأبحاث التي قادها المركز اللبناني للدراسات وأجراها سامي عطا الله، والدكتور سيباستيان بوستوس، ونانسي عز الدين، والدكتورة إيلينا سرور، والدكتور محمد علي يلديريم.
(2) فضاء المنتجات (product space) عبارة عن خريطة صناعية تسمح للمرء بأن يفهم بشكل بصري العلاقة بين منتجات تُتَداوَل في الاقتصاد العالمي. وتعكس هذه الشبكة القدرة الإنتاجية والمعرفة الراسخة في البلد، من خلال تسليط الضوء على منتجات يقوم البلد حالياً بتصديرها. ويتيح ذلك التوصل إلى فهم أفضل للقدرات الموجودة والفرص المحتملة في المستقبل. تتشاطر المنتجات المترابطة مباشرةً شروطاً مسبقة مرتبطة بقدرات الإنتاج، والمعرفة والمدخلات. وعادة ما تكون المنتجات الموجودة على أطراف الشبكة منتجات أقل تعقيداً، تتضمّن على سبيل المثال مواد خاماً وخضاراً طازجة. وكلما كان موقع المنتجات أقرب إلى المركز، ازداد تعقيدها (sophistication).