إن المركز التربوي للبحوث والإنماء، الذي أنيطت به المسؤولية الكبرى في بناء النظام التربوي اللبناني، والذي لم يتوانَ، منذ إنشائه عام 1971، عن إصدار البحوث والدراسات التربوية، وإعداد ألوف المعلمين والمعلمات وتدريبهم، وإنتاج ملايين الكتب المدرسية... استطاع بعد نهاية الحرب في لبنان، وضع خطة للنهوض التربوي، فجمع اللبنانيين من مختلف الطوائف والمناطق والانتماءات، وأخرجهم من وراء متاريسهم ليلتقوا حول ورشة وطنية موحِّدة وموحَّدة لإعادة بناء القطاع التربوي.
كانت هذه الورشة امتحاناً لقدرة اللبنانيين على الحوار والعمل معاً في قطاع يحدّد، إلى مدى بعيد، معالم الغد لأولادهم وللبنان، ويؤسّس لثقافة وممارسة جديدتين مبنيتين على تحديد للهوية والانتماء ضمن مناخ من المساواة والحرية والديموقراطية والحوار والانفتاح وعدم التعصّب، ويرفع باتجاه واضح نسبة العمالة، ويشجّع دورالمرأة والعائلة.
لم تكن الخطة ترمي فقط إلى تطبيق برنامج تعليمي جديد ووضع دفعة جديدة من الكتب المدرسية بين أيدي المعلمين والمتعلمين، بل كانت تؤسس للشروع في تطبيق نظام تربوي متكامل له مرتكزاته الفلسفية وأبعاده وأهدافه الوطنية والإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، نظام يجيب عن الأسئلة الجوهرية: أي مواطن نريد؟ وأي مجتمع نريد؟ وأي وطن نريد؟
نظام يحدد دوراً جديداً للمدرسة في بناء جيل جديد من التلاميذ، شركاء في بناء معرفتهم ومهاراتهم وبناء الوطن، نظام يحثّ على التفكير والتحليل، على التساؤل والبحث والاستنتاج، ويحرّرالمتعلم من صفته مجرد مستهلك للمعرفة لجعله قادراً على طرح تصوّرات غير التصورات السائدة وإعطاء أجوبة غير الأجوبة الرائجة، نظام يدرب على العمل الفريقي وينمّي روح التعاون والاستماع إلى الآخرين ويعلِّم أن التعلُّم مع الآخر أجدى من التعلم ضده!
ولكن هل تحققت كل الأهداف التي رمى إليها هذا النظام التربوي؟ إن الجواب البديهي هو أنه لم يتم بعد تحقيق كل هذه الأهداف. وكيف لهذه الأهداف أن تتحقق إن لم يكتمل بعد تنفيذ محاور كثيرة من خطة النهوض التربوي؟ البعض منها بغاية الأهمية!
وإذا لم تتمكّن تلك الورشة الوطنية الجامعة من الوصول عملياً إلى خواتيمها المنشودة، فأي ورشة أخرى يمكنها ذلك؟ أين تكمن المشكلة إذاً؟
المشكلة في بلدنا تكمن بشكل عام، في نظامنا الطائفي ــ المذهبي ــ المحاصصي الذي يقف عائقاً أمام كل المبادرات الآيلة إلى جمع اللبنانيين باتجاه أهداف وطنية مدنية موحّدة، كذلك فإنها تكمن، من الناحية الإجرائية، في تبدّل الحكومات، وانعدام التواصل بين السابق منها واللاحق، وفي أحيان كثيرة، في الانقلاب على المنجزات السابقة والتنكّر لها.
فهل يمكن اللبنانيين، في ضوء ذلك، الوثوق بمؤسساتهم الرسمية التربوية التي لا حول ولا قوة لها في ظلّ المتغيرات السياسية؟ وهل يمكننا إيجاد حلّ لهذه المشكلة؟ وهل يمكننا تأمين التراكمية والاستمرارية للمشاريع التربوية بغض النظر عن الأشخاص المسؤولين؟
إنّ الجواب الشافي والأكيد عن هذه الأسئلة الصعبة يكمن في إيجاد الإرادة الحاسمة لدى القيادات السياسية ممثلة بمجلس النواب ومجلس الوزراء، مع بداية هذا العهد الواعد، بتفويض وزير التربية مروان حمادة قيادة ورشة وطنية تربوية جديدة لتطوير النظام التربوي القائم، بإدارة المركز التربوي، ومشاركة القطاعين العام والخاص، ومؤازرة المنظمات الدولية التربوية، على أن تنتج من هذه الورشة استراتيجية وطنية تربوية طويلة الأمد، يستمرّ تطبيق مشاريعها، وإن تبدّلت الحكومات وتوالت.
هذا ما أوصى به البروفيسور فيديريكو مايور، المدير العام لليونسكو، في زيارته لوزير التربية السابق جان عبيد، في 4 آذار 1998، قائلاً: "إن إصلاحكم أشرك الحكومة والبرلمان والمجتمع والمفكرين فجاء كاملاً... المهمّ، انطلاقاً من مبدأ استمرارية الحكم، ألّا يغيّر نهج الإصلاح عند التغيير الحكومي، والمهم أيضاً أن تضمن الدولة استمرارية سياق هذا الإصلاح، لأنه يستحيل أن يكتمل إصلاح تربوي بأقل من 15 عاماً...».
عسى أن تقدم القيادات السياسية على هذه الخطوة الوطنية التاريخية والمفصلية، مفسحة في المجال أمام المؤسسات التربوية في لبنان لأن تعمل بفعالية أكبر في إطار هذه الاستراتيجية، فينعكس هذا تأثيراً إيجابياً على باقي المؤسسات الحكومية والاقتصادية والاجتماعية تطويراً «للرأسمال الاجتماعي» وتعزيزاً للتماسك الاجتماعي الذي يصفه البنك الدولي «بالعامل الحاسم للازدهار الاقتصادي للمجتمعات وديمومة التطورفيها».
*الرئيس الأسبق للمركز التربوي للبحوث والإنماء
كلمة ألقيت في حفل التكريم الذي نظمه المركز لتكريم رؤسائه السابقين