«أعتقد أننا يجب أن نستمع إلى أصوات أصحاب البشرة السوداء الآن»، قالتها إحدى أعضاء لجنة التحكيم البيضاء خلال مناقشة الاسم الذي رشّحته لنيل جائزة أدبية مرموقة، في أحد المشاهد الرئيسية من فيلم «خيال أميركي» American fiction (2023 – أوسكار أفضل سيناريو مقتبس). المفارقة أنّ السيدة والأعضاء البيض الآخرين معها، استخدموا هذه الجملة لتجاهل آراء العضوين السوداوين اللذين لا يوافقانهم الرأي حول إعطاء الجائزة لكتاب ألّفه رجل أسود. في قلب هذا المشهد، نجد نقداً لحركة ما بعد الحداثة للنخبة الأكاديمية والثقافة الأميركية، وبشكل غير مباشر، للمنطق الهوليوودي المتمثل في التمسك السطحي والمزيّف بموضوع التعددية والتنوع، فيما هو يعكس بحد ذاته عنصرية وتنميطاً للمجموعات في قوالب معدةّ سلفاً. في عالم السينما والأدب، غالباً ما يكون ظهور ونجاح قصص وأفلام مجتمع الأميركيين من أصل أفريقي تحت رحمة «ذنب» النخبة الأميركية التي يهيمن عليها البيض. لهذا، ضمّ منظمو جائزة أدبية مرموقة في الفيلم، الكاتب تيلونيوس «مونك» ايليسون (جيفري رايت)، في لجنة التحكيم، كنوع من زيادة التعدّدية والتنوّع. لكنّ وجهة نظر مونك الأسود مهمّة وكذلك صوت سينتارا (إيسا راي)، طالما أنّهما يتطابقان مع وجهة نظر زملائهما البيض فقط.
لمدة طويلة، كانت وجهة النظر السائدة في المؤسسات الثقافية هي وجهة نظر المجتمع الأميركي الأبيض. في ضوء ذلك، استُبعد المبدعون والفنانون من الأقليات العرقية الأخرى لمدة طويلة. كما سيطرت قصص وأفلام البيض على الجوائز الأدبية والسينمائية المختلفة. وفي منتصف عام 2010، أصبحت #OscarSoWhite إحدى أبرز الحملات التي هاجمت هذا التمييز. كان الغرض الرئيس من ذلك لفت الانتباه إلى إهمال أعمال الفنانين من الأقليات العرقية. نتيجة لذلك، تمت الإضاءة أكثر على الفنانين غير البيض، وكانت الحملة ناجحة إلى حد ما. ترشح المزيد من الفنانين الذين ينتمون إلى أقليات عرقية لجوائز الأدب والأوسكار، بل فازوا بها في بعض الأحيان. حقّق فيلم «12 عاماً من العبودية» نجاحاً كبيراً عام 2014، وفاز بأوسكار أفضل فيلم، وكذلك «ضوء القمر» عام 2017. بضع سنوات مرّت منذ ذلك الحين، وكان لدى صناع القرار الثقافي متّسع من الوقت للتغيير الجذري والصادق. هل فعلوا ذلك؟ ظاهرياً فقط، وهذا ما يحاول أن ينتقده كورد جيفرسون بطريقة ساخرة في باكورته الروائية «خيال أميركي». بعد حادثة وقعت مع طلابه، أوقِف الكاتب والمحاضر مونك عن العمل لمدة قصيرة. هو من أصل أفريقي يعيش في لوس أنجليس، نالت رواياته استحسان النقاد، لكنّها لم تحقق نجاحاً في المبيعات. لا تجد روايته الأخيرة ناشراً يرغب في نشرها. مشكلة مونك أنّ ما يكتبه ليس «أسود»، إذ لا تتحدث كتبه عن الصورة النمطية التي يحبّها عالم النشر عن السود. سافر إلى بوسطن لحضور بعض الندوات ولمّ شمل عائلته التي ابتعد عنها إلى حدٍّ ما. وقرّر غاضباً هناك أن يكتب باسم مستعار كتاباً مليئاً بالكليشيهات والتنميط حول مجتمع السود، وطلب من وكيله إرساله إلى دور النشر في حركة مسرحية تسخر من ضحالة المشهد الأدبي وحلقة النشر و«النخبة» الثقافية. ولكنّ أحداً لم يفهم النكتة! والنتيجة أنّه عُرض عليه عقد سخيّ لنشر الكتاب. وهنا تبدأ قصة الفيلم المقتبس عن كتاب بعنوان Erasure لبيرسيفال إيفرت.
يُحرم المبدعون والفنانون الأميركيون من أصل أفريقي من أن يكونوا أفراداً كمبدعين. بينما يمكن للفنانين البيض الكتابة عن أي شيء وإخراج أي عمل فني يريدونه، نجد أنّ نظراءهم من الأقليات مجبرون على تمثيل انتمائهم العرقي في كل حرف يخطونه، بغض النظر عن أسلوب فنهم أو موضوعه. وهذا يثير غضب مونك عندما يرى أعماله في قسم «الأدب الأميركي الأفريقي» في إحدى المكتبات، في حين أنّ أعماله لا تتمحور حول الثقافة السوداء. في أميركا، ليس لديك فرصة لتحديد فنّك الخاص، بل إنّ البيض سعداء للقيام بذلك نيابةً عنك ورغم أنفك! إنّ عالم اليوم عنصري إلى درجة أن الشخص الأسود يكتسب شهرته فقط إذا كتب عن العبودية أو ضمن الصورة المنمّطة عن الثقافة السوداء. يريد مونك أن يفكر في الحالة الإنسانية، لا في معاناة السود، لكن لا أحد يهتم. هكذا، يصبح الفيلم هجاءً لا يرحم للقيم الثقافية الحالية، ما يضعه في مكان وحيد ومميّز في السينما المعاصرة. حتى إنّه يسخر من جوائز الأوسكار، ويلمح إلى تسمية فيلم «12 عاماً من العبودية»، الذي نسيناه تقريباً اليوم مع أنه فاز بجائزة الأوسكار، ما يثبت أطروحة «الخيال الأميركي».
لقد تغيّر المنطق التمثيلي للأقليات بفضل «الصوابية السياسية». لكن هذه «الصوابية» لم تستبدل الصور النمطية، بل استبدلت الطريقة التي يفكر فيها الجمهور المثقّف بشأنها. ما كان في السابق مهيناً وتبسيطياً، أصبح اليوم علامة على الأصالة. لذلك، فـ «خيال أميركي» لا يندرج ضمن الصوابية السياسية في نواح عديدة، وينجح في كسر الصورة النمطية للسود. فالقصة تدور بعيداً من الأحياء المهمّشة والعصابات ومغنّي الراب والجريمة والفقر التي اعتدنا رؤيتها على الشاشة. في الواقع، نحن نواجه بطل فيلم أسود مثقفاً ومتغطرساً، من عائلة من الجرّاحين مع مشكلات نموذجية للطبقة الوسطى كالشيخوخة، والأزمات الوجودية، والعزلة، والمثلية، ومشكلات الهوية والذكورة.
يسخر American fiction من النخبة المثقّفة ودوائر صنع القرار في دور النشر


بطريقة لاذعة ورؤية مضحكة حول الاستيلاء الثقافي، والتقدمية الورعة، يقدّم الفيلم قصة جريئة تتناول قضايا مباشرة أو عرضية مثل العنصرية والنفاق والغطرسة الفكرية، وتمثيل الأقلية السوداء، والشعور بالذنب الأبيض، وسخافة الصوابية السياسية وجشع الصناعات الثقافية. ما يجب تسليط الضوء عليه هو الخفة التي يتم فيها تناول هذه المواضيع. رغم أنّنا نواجه سخرية من المجتمع الحالي ونفاق خطاب التعددية، إلا أنّ كل شيء محدّد بدقة، فالسيناريو لا يقع أبداً في ما ينتقده، ولا يصبح كتيّباً أو خطاباً حول الخطأ والصواب.
لا أحد في مأمن من هذه الحكاية الكئيبة والمضحكة والواضحة والقاسية. رغم أنّ إيقاع الفيلم الهادئ يقترب بشكل خطير من إيقاع الفيلم التلفزيوني الرتيب، لكن فقط من خلال هذا، يمكننا أن نصل إلى نهاية كبيرة تبرّر كل شيء. «خيال أميركي» كوميدي ساخر، ودراما عائلية خفيفة، يعرف كيفية مناقشة العرق والثقافة والتصورات المحيطة بها في السياق الأميركي الأفريقي. تمكّن جيفرسون من صنع قصة تحتوي على تقاطعات بين الدراما والكوميديا، مع كمّ لا ينضب من الأسئلة. نادراً ما رأينا فيلماً أكثر دقة وقسوة عن «الفن الأسود» ونظرتنا إليه. نقد اجتماعي لاذع يوضح بمهارة مدى عنصرية وسطحية دور النشر المعاصرة عندما يتعلق الأمر بكتاب السود. وبطبيعة الحال، يمكن قول الشيء نفسه عن الجمهور، الذي يطارد الملذات الرخيصة. خلال المشاهدة، نشعر بالرعب لمدة ساعتين تقريباً، ففي النهاية نحن جزء من هذا العالم!

* American fiction على + OSN