منذ لحظة انطفاء الأنوار، يتردّد صدى صوت في صالة السينما، ويحذّرنا الزئير الخارج من الشاشة السوداء، بأنّ فيلم الخيال العلمي الذي نحن على وشك مشاهدته، أصبح أكثر نضجاً. في «ديون 2» (أو «كثيب: الجزء الثاني)، ينأى المخرج الكندي دوني فيلنوف بنفسه قدر الإمكان عن أي شيء يربط عمله بخصائص هذا النوع، ويطلب منّا أن نندهش ونسمح لأنفسنا بدخول عالمه الفسيح. عالم يمكن أن نختصره في مشهدين: الأول حين يركب بول أتريديس (تيموثي شالاميه) دودة رملية ضخمة. ما نراه لا يصدّق: المخلوق يحوم فوقنا، يرشّ الرمال، ويصيبنا بول بنشوته. والثاني، هو المعركة الشرسة على مدرج في كوكب «هاركونين». قُدِّم هذا المشهد بالأبيض والأسود. وقد قال المخرج بأنّ غياب الألوان جرى بواسطة كاميرا مزودة بعدسات تعمل بالأشعة ما تحت الحمراء، لا في مرحلة ما بعد الإنتاج. كل ما نراه في المشهد يثير الإعجاب، من هتاف الجماهير، إلى الهجوم بالسكاكين. رغم أنّنا نريد الصراخ، إلا أن الصورة تبقينا هادئين مكبّلين.

هناك شيء في عمل المصوّر السينمائي غريغ فريزر، يضاعف من بذخ اللقطات المبهرة والبليغة، وفي ألحان هانز زيمر التي تملؤنا بالسلام وتذكّرنا بأننا صغار جداً مقارنة بما نشاهد. مع ما سبق، وما سيأتي، يمكن القول بشكل قاطع إنّ وجود «ديون 2» في الصالات حالة نادرة. تركنا الجزء الأول «ديون» (الأخبار 4/10/2021) بسؤال حول ما إذا كان فيلنوف سينجح مرة أخرى حيث فشل الآخرون؟ اليوم، يمكن تقديم إجابة واضحة وطويلة: «ديون 2»، مهيب، طموح، غير متحذلق، لا يمكن فصله عن الجزء الأول، وبالطبع عن ملحمة فرانك هربرت الأدبية. جسر ضخم يهدف إلى ختام هذه الملحمة مع الجزء الثالث «ديون: المخلّص» في السنوات القادمة.
بعد وفاة والده والهجوم على «أراكين» موطن عائلة أتريديس من قبل هاركونين، وجد بول أتريديس ووالدته جيسيكا (ريبيكا فيرغسون) ملجأً بين شعب «الفريمن» وسط صحراء «أراكيس»، موطن التوابل الثمينة وديدان الرمل. قسم من شعب «الفريمن»، يرى أنّ بول هو «المخلّص» الذي تنبأت به أخوية بيني غيسريت. ستيلغار (خافيير بارديم) أحد قادة «الفريمن»، على يقين بأنّ بول هو «لسان الغيب» الموعود، الذي سيحررهم من الظلم ويعيد «أراكيس» إلى الحياة. تشاني (زيندايا) وأفراد الجيل الجديد يشاركون بول رأيه بأنّ النبوة قصة ملفّقة تُروى فقط للسيطرة على الشعوب. بينما يكمل بول تدريبه، ويخضع لطقوس العبور ليصبح فرداً من «الفريمن»، يجب عليه القتال ضد المستقبل الرهيب الذي لا يستطيع أحد رؤيته سواه: حرب مقدسة ستقود «الفريمن» إلى الإطاحة بالعائلات الكبرى، وإلى مجاعة وموت الكثير من الناس. على أي حال، لدى بول رغبة مختلفة تماماً، فهو يريد الانتقام لوالده وإسقاط عائلة هاركونين على رأسها البارون فلاديمير (ستيلان سكارسغارد)، والإمبراطور (كريستوفر والكن)، الذي يحرّك الخيوط في الخلفية. في النهاية، يتعيّن على بول أن يقرّر ما إذا كان يريد قيادة «الفريمن» إلى الحرب المقدسة التي يخشاها، أو ما إذا كان يريد مقاومة هذا المصير المحدّد له، والتركيز على الانتقام. في كلا الحالتين، ليس لدى بول خيار سوى الذهاب إلى النهاية في طريق محددة لمعرفة ما إذا كان هو حقاً الشخص المختار.


يركز هذا الجزء بشكل أكبر على العلاقات بين الشخصيات وتطوّرها، مع إيلاء اهتمام خاص لقصّة بول، الذي يصبح قائداً ذا أهمية دينية، باعتبار أن العقيدة والنبوءات جوهر القصة. يستمرّ الجزء الثاني في بناء أسطورة «المسيا» أو «المشيح» أو «المهدي» أو «المخلص»، ويصبح من أهم نقاط قوته أن ينتقدها ويهزّها. سيستحيل تحديد ما إذا كانت الأسطورة كذبة لأنّ بيني غيسريت اخترعوها وبدؤوا بنشرها، أو أنّ هذه النبوءة مناسبة تماماً للقصة التي تروى إلى درجة أنّ المشاهد يريدها أن تتحقّق. يتعمّق الجزء الثاني في تثبيت روابط «الفريمن»، وسكان «أراكيس» مع العالم العربي والإسلام الصوفي، والإحالة إلى «التوابل» على أنّها النفط. كل الصور التي تكشفت أمام أنظارنا المندهشة من الجزء الأول إلى الساعات الثلاث من الجزء الثاني، لا تزال تتضمّن أزياء ومراجع فنية وثقافية متنوعة متأثرة بالثقافة العربية. لا يزال الاستعمار، والهيمنة الإمبريالية التوسعية، واستغلال موارد الشعوب والمقاومة والمشاغل البيئية، ممزوجة بالرموز والإحالات الفلسفية والسياسية، وبالميثولوجيات الدينية والحضارات القديمة، كلها حاضرة. في النهاية، إنّها قصة قوة إمبراطورية استعمارية تسعى إلى استغلال الموارد الطبيعية لإقليم ما، فتقرر شن الحروب وارتكاب الإبادات الجماعية لتحقيق ذلك.
يحمل إحالات إلى العالم العربي والإسلام الصوفي ويصوّر «التوابل» على أنّها الثروة النفطية


لا يلبّي خروج «ديون 2» إلى الجمهور بعد تأخير أربعة أشهر ونصف الشهر بسبب إضراب هوليوود، التوقعات العالية جداً فقط، بل يتجاوزها أيضاً. لأن الجزء الثاني من ملحمة الخيال العلمي، ليس تكملة، بل استمرارية، فالفيلمان يخلقان معاً قصة كبيرة بانتظار النهاية الكبيرة. وإذا كان «ديون» أسّس في البداية الشخصيات وعالمها ومهّد الطريق وخدش السطح في عدد من المناطق، فإن الجزء الجديد يتعمق أكثر في القصة المعقدة والشخصيات. لن يخيب ظن منتقدي الجزء الأول، الذين لم يتقبلوا الطبيعة التمهيدية، لأننا اليوم حصلنا على قصة أكثر اكتمالاً. هناك زيادة كبيرة في الحجم والشكل والشخصيات وسفن الفضاء والديدان وعادات الشعوب، والأهم تعمّق أكبر في طرق المقاومة. هناك مؤامرات مكيافيلية، وعبادة عمياء للدين والنبوة. ورغم أنّ انتقاد الجزء الأول للمجتمع والدين لم يكن شيئاً مستتراً على الإطلاق، إلا أن الحبكة اليوم أصبحت قوية جداً بسبب هذا العرض المباشر للتطرف والتعصب واستغلال الدين لتحقيق مآرب سياسية. ما نفتقده هو المزيد من الدماء (القصة تدعو إلى المزيد من القتال والمذابح، ولكنّ المنتجين يطلبون تصنيفاً مناسباً للمراهقين)، والمزيد من العاطفة التي فقدناها أيضاً في الجزء الأول.
ليست الصور المهيبة لغريغ فريزر التي التُقطت في صحراء الأردن وأصوات هانز زيمر التي تبدو كأنّها تأتي من خارج هذا العالم، هي الثقل الأساس فقط، بل أيضاً الشعور ورؤية وفلسفة المخرج دوني فيلنوف طوال الفيلم، إذ يمكنه استبدال الحوارات بمجرد لمحة صغيرة، مفضّلاً التواصل بالصور المركبة إذا أمكن. يمكن الشعور بقوة الصورة والصوت حتى النخاع، والتوتر يزرع حبات العرق على وجوهنا. «ديون 2»، لا يقف ساكناً للحظة. هناك دائماً شيء جديد لاكتشافه وفهمه وتجربته في هذا العالم الغني. إنها سينما الخيال العلمي على أعلى مستوى، يتجنّب فيها فيلنوف هراء هذا النوع الأكثر ابتذالاً. فيلم فيلنوف مثل الكثبان الرملية، يتدحرج فوقك، يغلّفك، يعميك ويقطع أنفاسك، ولكن فيلنوف يريدك أن تنظر عن كثب قدر الإمكان، فنكون أشبه بمراقبين أنثروبولوجيين، بينما حواسنا تتعرض للهجوم، لكننا في نشوة نريد المزيد.

* Dune: Part Two في الصالات

الرواية التي فتنت الأجيال وبقيت عصيّة على الاقتباس | دوني فيلنوف: «ديون» أوبرا فضائيّة مفعمة بالاكشن