لعلها المرة الأولى التي نشاهد فيها فيلماً وثائقياً خارجاً كلياً عن سياقه ومضمونه، وكل مشهد منه خارج عن محتوى ما يحدث داخله وعمّا سبقه. كأنّه فيلم خارج الزمن، لا يفقه عوالمه ولا يعرف التعامل مع شخصياته، غير ناضج، مفتعل، مركّب إلى درجة الزيف، ومصمّم بغير سوء نية لكنّه جاء بمثابة إهانة جماعية لكثير من البشر. «متل قصص الحب» للمخرجة اللبنانية ميريام الحاج، الذي عُرض في مسابقة «بانوراما» ضمن «مهرجان برلين السينمائي الدولي» هو أحد هذه الوثائقيات. مشكلته الأساسية هو أنّه صوِّر على سنوات عدة، بدايةً من عام 2017 كما قالت المخرجة ويُعرض اليوم. في هذه المدة، مرّ لبنان بعدة مراحل، بدءاً بالانتخابات البرلمانية عام 2018، ثم انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، وجائحة كورونا، وانفجار مرفأ بيروت، والأزمة الاقتصادية والمعيشية وكل ما تخلّلها. فترة جعلت لبنان واللبنانيين يعانون من ضياع كامل، كان تأثيره كبيراً على الوثائقي وشخصياته، فما حدث في لبنان أسرع مما يمكن لأحد تصوّره. هذه الحالة وطول مدة التصوير، تجعلان المخرجين والمخرجات ينظرون إلى السينما كما لو أنّها ترف لن يتمكنوا من الوصول إليه مرة أخرى في أي وقت قريب. لذلك، فإنهم يغتنمون الفرصة لتضمين أكبر عدد من الرغبات والاختراعات والأحداث والمواضيع في فيلمهم. نادراً ما نرى في هذه الحالة «منتجاً» قادراً على إزالة التجاوزات وأحلام اليقظة والغرور الإخراجي، لمصلحة المزيد من الاختزال والتواصل الأوضح مع ما حدث ويحدث. يبدأ فيلم ميريام الحاج مع الصحافية والشاعرة جمانة حداد أثناء حملتها الانتخابية لانتخابات عام 2018. بسرعة نعرف أنّها كانت رابحة، ثم خاسرة بين ليلة وضحاها. في عام 2019، يبدأ الغضب الشعبي في شوارع بيروت، بيرلا جو معلولي أصبحت «رمزاً» لهذه الانتفاضة. يلاحق «متل قصص الحب» الشخصيتين طوال سنوات التوتّر اللبنانية، تشاركاننا أفكارهما وتجاربهما وتأثير ما حدث لهما. ينضم إليهما جورج (أبو الليل) أحد محاربي الحرب الأهلية الذي قال إنّه كان واحداً من المسلحين الذين أطلقوا النار على بوسطة عين الرمانة الشهيرة. عبر تعليق صوتي، تقول لنا الراوية، المخرجة نفسها، مذكراتها أثناء الحرب الأهلية وصولاً إلى الانتفاضة الشعبية ثم الانفجار. تعليق صوتي شخصي، تشارك عبره الحاج مشاعرها العامة والخاصة.
«متل قصص الحب» «مضعضع»، لا يعرف مساره ولا ما يريد الحديث عنه. خلطة قضايا وأحداث احتلت عناوين الصحف ومزاج الرأي العام، في فيلم واحد يمكن وصفه في أحسن الأحوال بأنه ريبورتاج تلفزيوني طويل أكثر منه وثائقياً سينمائياً، حتى إنّ مارسال غانم وبرنامجه «صار الوقت» يحتلّان شاشة السينما لدقائق. لم تعرف الحاج التعامل لا مع شخصياتها ولا مع فيلمها، كأن الفيلم كان شيئاً وانتهى ليكون شيئاً آخر كلياً. بدأ كأنه دعاية انتخابية لجمانة حداد، ثم أصبح يلاحق بيرلا في شوارع بيروت خلال الانتفاضة، وفي الوقت نفسه يجلس مع جورج عند الحلاق وفي بيته ليخبرنا بذكرياته عن الحرب الأهلية، وتعليقاته على ما يحدث بطريقة صادقة فيها الكثير من العفوية. بدت بطلتا الشريط متعاليتان، تصدحان بـ«الأنا». أكثر من نصف الفيلم تتحدث الامرأتان عن نفسيهما، ويتحول الاهتمام الرئيس مما يحدث بشكل عام إلى حياتهما الخاصة.
يفتقد «متل قصص الحب» إلى الإخراج، لا تفقه الحاج حشر شخوصها في زاوية وإخراج ما تريد منهم. بدت كأنها مجرد مصوّرة تتقبّل كل ما يخرج من أفواههم، كأنهم يملكون الحقيقة في كل شيء يحدث، رغم أن بيرلا مثلاً لا تعلم ما هي الشيوعية، وتساوي بين فلسطين وإسرائيل! تسمعنا الحاج كلماتها عن الحياة وصيبة العين، وبيروت وعلاقة الحب التي ساعدتها الانتفاضة الشعبية على التخلّص منها. تنتقد جورج، وتحكم عليه من خلف ظهره لا في وجهه، لتحمّله وكل من شارك في الحرب الأهلية اللبنانية، مسؤولية ما يحدث اليوم في لبنان. هناك استخفاف يتمثل في ما يقال في الفيلم، كأنّ ليس للكلمات أي وزن ولا اعتبار. لا يمكن اختزال الحرب الأهلية ببوسطة عين الرمانة. هذا الاستخفاف ينطبق على لغة الفيلم السينمائية، فهو عبارة عن تجميع مشاهد، بلا مونتاج واضح، ولا مسار معين، يمشي بلا وجهة محددة، يفتقد معرفة التعامل مع كل ما حدث في لبنان. لا يمكن أن ننتج فيلماً يتحدث عن سنوات الاضطراب في لبنان من منظور واحد، ونختزل بذلك كل المكونات الأخرى. ضاع الفيلم وضيّع معه مشاهديه، حتى شخصياته لم نعرف حقاً من هي، كأن الحاج لا تهتم بذلك، وخصوصاً جورج الذي هو أكثر الشخصيات إثارةً للاهتمام.
بدأ كأنه دعاية انتخابية لجمانة حداد، ثم أصبح يلاحق بيرلا في بيروت


الفيلم مصمّم للمشاهد الغربي، وفي الوقت نفسه لا ينجح في الوصول إليه، لأنّ من لا يعرف ما حدث في لبنان، سيبقى جاهلاً بعد مشاهدة الفيلم بسبب قفزاته الزمنية العالية. من يعرف اضطرابات لبنان، لن يخرج بأي جديد. أساء الفيلم التعامل مع ما حدث ويحدث، هذا إن لم نقل استخفّ به. نظر بسطحيّة كبيرة إلى الأحداث، فالأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية أشدّ تعقيداً من مجرد شخص سيّئ وشخص جيد. مشت الحاج في فيلمها بجانب الحائط، لم تتجرأ على طرح أي سؤال يمكن أن يعطي فيلمها الثقل والعمق المناسبين. «متل قصص الحب» مجرد مشاهد ومقابلات خالية من المضمون والخلفية. كأنّ الحاج حملت كاميرتها في كل مرة يحدث فيها اضطراب في البلد وذهبت إلى جمانة وبيرلا وجورج، لتسألهم عن أحوالهم وتأخذ منهم تعليقاً على ما يحدث. يصبح الواقع المضطرب مجرد مقاطع فيديو قصيرة ممتدّة على سنوات، ومونتاجها مفيد لإنشاء منتج تجاري مُعبّأ مسبقاً عبر الصور والمشاهد المختزلة والمسحوبة من سياقها، مقارنة بتعقيد الواقع المعاش.