برلين | يفتخر «مهرجان برلين السينمائي الدولي» الذي انطلق مساء الخميس، بأنّه الأكثر إثارة للجدل بين المهرجانات السينمائية الأوروبية الثلاثة الكبرى. هذا العام، طرقت التوترات والحروب أبواب المهرجان وعرّضته لعواصف كثيرة على رأسها الحرب الإسرائيلية على غزة، والحرب الأوكرانية الروسية، ودعوة اليمين الألماني إلى المهرجان (سُحبت الدعوة لاحقاً)... خلال المؤتمر الصحافي الذي أقامته لجنة التحكيم، ذُكرت جملة «مهرجان برلين هو مهرجان سياسي» أكثر من عشر مرات، إلى درجة أنّ عضو لجنة التحكيم المخرج الألماني كريستيان بيتزولد قال بعدما ضاق صدره: «أحب أن أذهب إلى مهرجان غير سياسي»، لتكمل رئيسة لجنة التحكيم الممثلة الأميركية لوبيتا نيونغو «لا أعتقد أن حديث الفنانين عن غزة وأوكرانيا وحزب «البديل من أجل ألمانيا» هو ما يدور حوله الأمر. الأمر متعلّق بالأفلام والسينما». خلال المؤتمر، لم يجد الحاضرون وقتاً للحديث عن السينما والأفلام الـ233 المشاركة في المهرجان، بل سيطرت السياسة على الدورة الرابعة والسبعين، خصوصاً في ظل مناخ القمع الذي قوبل به مناصر فلسطين في ألمانيا. قبل أيام من بدء المهرجان، نشرت مجموعة من العاملين في «البرليناله» رسالةً مفتوحة تطالب المهرجان باتخاذ «موقف مؤسساتي أقوى» بشأن «الاعتداء الحالي على حياة الفلسطينيين». الرسالة التي نُشرت على انستغرام، جاءت رداً على بيان المهرجان البارد حول الحرب على غزة، إذ قال مديرا المهرجان كارلو شاتريان ومارييت ريسنبيك: «نتعاطف مع ضحايا الأزمات الإنسانية في الشرق الأوسط وأماكن أخرى، نحن نتخذ موقفاً حازماً ضد جميع أشكال التمييز ونلتزم بالتفاهم بين الثقافات». رسالة العاملين وضعت الأمور في نصابها. جاءت لتدين بشكل واضح الإبادة الحاصلة بحقّ أهل غزة، جاء فيها: «ندرك بشكل مؤلم الديناميكيات التي لا تطاق للجمود المؤسساتي في القطاع الثقافي في ألمانيا، وندرك القيود الحالية المفروضة على حرية التعبير. نريد أن نرفع المهرجان وأنفسنا إلى مستوى أعلى. عبر أدوارنا كمبرمجين ومستشارين ومشرفين، جنباً إلى جنب مع العاملين في المهرجان، يمكننا، بل يجب علينا، التعبير عن معارضتنا للهجوم الحالي على حياة الفلسطينيين. إننا ننضم إلى حركة التضامن العالمية للمطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار». وتابعت الرسالة: «بينما يشهد العالم خسارةً لا يمكن تصوّرها في أرواح المدنيين في غزة، بما في ذلك أرواح الصحافيين والفنانين والعاملين في مجال السينما، فضلاً عن تدمير التراث الثقافي الفريد، فإننا بحاجة إلى مواقف مؤسساتية أقوى، نتوقع أن يتخذ المهرجان موقفاً يتوافق مع المواقف المتّخذة رداً على الأحداث الأخرى التي ضربت المجتمع الدولي في السنوات الأخيرة».من المؤتمر الصحافي إلى السجادة الحمراء، حضرت السياسة في فيلم الافتتاح، مع كثير من التوابل الدينية، ووجه سينمائي كبير، لتكون جميع المكونات حاضرة لفيلم ملائم لافتتاح المهرجان. الوجه هو الغني عن التعريف كيليان مورفي، الذي يحكي القصة عبر عينيه وصمته. رجل يحمل ثقل الماضي ويمشي في شوارع إيرلندا مثل الشبح. يلعب الممثل الإيرلندي دور بيل فورلونع، تاجر الفحم في بلدة صغيرة في ويكسفورد في إيرلندا، يعيل زوجته وبناته الخمس. بيل رجل هادئ، منظّم، لا يتذمّر، مشيته منحنية تظهر تواضعه، وعلامات الفقر واضحة على ملابسه وجسده. يريد أن يفعل الخير ويعيش حياة هادئة. في صباح أحد الأيام، أثناء ذهابه إلى الدير لتوصيل طلبية، يكتشف شيئاً فظيعاً يجبره على مواجهة ماضيه. في المدينة التي تسيطر عليها الكنيسة، يجب أن يختار ما يجب القيام به: التزام الصمت أم المواجهة؟ في «أشياء صغيرة كهذه»، ينظر المخرج البلجيكي تيم ميلانتس بعمق في وجه كيليان مورفي وهو يواجه فصلاً مظلماً من تاريخ إيرلندا. تدور الأحداث عام 1985 في الأيام التي سبقت عيد الميلاد، علماً أنّه مقتبس عن رواية قصيرة بالعنوان نفسه للكاتبة الإيرلندية كلير كيغان. يسلّط الضوء على «الملاجئ المجدلية» التابعة للكنيسة الكاثوليكية التي كانت نشطة من 1820 إلى 1996. كان هدف هذه الملاجئ علاج الشابات الحوامل غير المتزوجات. في هذه البلدة الصغيرة، أطفال يشربون الحليب الذي يتركه السكّان للقطط ليلاً. وهناك أمهات صغيرات يواجهن العقاب والإذلال طوال الحياة باسم الربّ.
تحاول سينما كيغان أن تظل قريبة من القصة الحقيقية ومن الرواية. هذا ما يمنع حصول أي شيء عاطفي من شأنه أن يهز القصة أو يهزّنا نحن، رغم فاجعة الحدث. «أشياء صغيرة كهذه» فيلم واضح جداً من الناحية النفسية ومباشر وجامد. شيئاً فشيئاً، يفقدك الاهتمام به. يجمع بين قصة الفتيات في الملجأ وماضي بيل، ويحاول أن يثير الحواس مراراً وتكراراً بالرعب، خصوصاً في مشاهد الدير، حيث ينغمس في رموز أفلام هذا النوع، وأيضاً يحاول تشويقنا في مشاهد الفلاش باك عن طفولة بيل، وتقديمها كلغز. لا يخرج الفيلم عن الكليشيهات المعروفة عن قصص الشخص المضطرب الذي عليه أن يفعل الأشياء الصحيحة رغم الظروف المعاكسة. يقفز بين ماضي بيل وحاضره، ومن العمل الشاق في الفحم، إلى المجتمع الخاضع والمخلص للسلطة الدينية، فكل شيء واضح جداً، حتى في عتمة الفيلم التي لا تنتهي. مع ذلك، يظلّ أداء كيليان مورفي مطبوعاً في ذاكرتنا بسبب قدرة الممثل الإيرلندي على إظهار كيف أن بيل هو شخص مغلّف تماماً بأفكاره ومغيّب عن الواقع الذي يحيط به. تتألق إميلي واتسون أيضاً في دور الأخت ماري، بأداء يُظهر مدى قوة السلطة الدينية وسطوتها عبر نظرتها الجليدية، كأنها شبح شيطاني بلباس راهبة.