في 28 آب (أغسطس) 1963، شارك حوالى 250 ألف شخص في «مسيرة الحقوق المدنية إلى واشنطن» (March on Washington for Jobs and Freedom)، للدفاع عن الحقوق المدنية للأميركيين السود. أقيمت أكبر تظاهرة سلمية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية حتى الآن عند نصب لنكولن التذكاري، مقابل مبنى الكونغرس في واشنطن. وقتها، تحدّث كثير من الشخصيات، ولكنّ أشهر خطاب كان خطاب مارتن لوثر كينغ الابن (1929 – 1968)، الذي حُفظ نصه الشهير «لديّ حلم» في الذاكرة الجماعية. حقق هذا الحدث النجاح الذي كانت تأمله حركة الحقوق المدنية، ففي 2 تموز (يوليو) 1964، دخل قانون الحقوق المدنية التاريخي حيز التنفيذ في الولايات المتحدة. قانون حظّر التمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين أو الجنس أو الأصل القومي.ناشط الحقوق المدنية بايرد رستن (1912 – 1987) هو أحد منظّمي التظاهرة الرئيسيين، لم يظهر علناً في المسيرة. شخصية أقلّ شهرةً من نشطاء الحقوق المدنية الأميركيّين، ولكنّه لم يكن أقلّ جاذبية. كان رستن منظّماً، مناضلاً، نادى بالحقوق المدنية وبالمساواة واللاعنف وحقوق المثليين، وكان صديق مارتن لوثر كينغ الابن ومستشاره. كانت لديه آنذاك خصوصيّة تميّزه وتفرّقه، في ذلك الوقت على الأقل، وتضعه في صراع مع رفاقه وأعضاء «الجمعية الوطنية للنهوض بالملوّنين» (NAACP). لقد كان مثلياً بالعلن، ما عرّضه للخطر وعرّض الجمعية للتشهير، خصوصاً عندما تضع اسمه في مواجهة القضايا التي تدافع عنها.
كان رستن شخصية كبيرة، ولكنه توارى خلف الكواليس، وهذه مادة سينمائية مغرية ليس فقط لإلقاء نظرة على التاريخ ورؤيته من خلف الكواليس، بل أيضاً للتعرف إلى هذه الشخصية من كثب، على الأقل هذا ما كنّا نعتقده. في «رستن»، الفيلم الذي أنتجه باراك وميشيل أوباما، وأخرجه جورج سي. وولف، نلتقي بهذا الرجل في مدة وجيزة من حياته، تحديداً بين عامي 1960 و1963، منذ محاولته الفاشلة في تنظيم مسيرة خلال مؤتمر الحزب الديموقراطي، وصولاً إلى مسيرته الناجحة في واشنطن. يدور الفيلم حول التنظيم المجيد لتظاهرة واشنطن، ونرى رستن (كولمان دومينغو)، يحاول تنظيم المسيرة، فلا يواجه فقط العنصرية، بل يتعين عليه أيضاً مواجهة رهاب المثلية داخل مجتمعه. نرى صداقته مع كينغ الابن (أمل أمين)، وصداقته مع الرائد في حركة الحقوق المدنية آسا فيليب رودولف (1889 – 1979 / غلين تورمان)، والناشطة إيلا بيكر (1903 – 1986 / أودرا ماكدونالد)، ومشكلاته مع القس والسياسي الديموقراطي من أصول أفريقية آدم كلايتون باول الأصغر (1908 – 1972 / جيفري رايت)، وتنافسه مع أحد قادة الـ«الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين» البارزين روي ويلكينز (1901 – 1981 / كريس روك)، وعلاقاته العاطفية المعقّدة بتوم (غاس هالبر) و إلياس (جوني ريمي).
عبر اختيار قصة بايرد رستن كبطل للفيلم للمرة الأولى تقريباً في فيلم روائي (بعد وثائقي«الأخ غير المعروف: حياة بايرد رستن»/ 2003 ـــ Brother Outsider: The Life of Bayard Rustin)، يحاول المخرج والمنتجون تكريم رستن الذي تلاشى من القائمة المختصرة لناشطي الحقوق المدنية المشهورين. كان نشِطاً خلف الكواليس، بسبب عدم ارتياح الجمهور لميوله الجنسية، وعضويته السابقة في الحزب الشيوعي، وخلافه مع معظم قادة الحقوق المدنية بسبب ميله نحو المحافظين الجدد في أواخر الستينيات. يقترح الفيلم ـ ببساطة ـ رؤية معمّقة للتاريخ، فليس الأبطال ذوو الأسماء الكبيرة فقط الذين يلعبون دوراً في تشكيل التاريخ، بل أيضاً أولئك الذين مُنحوا أدواراً ثانوية لأسباب نعرفها اليوم. بالتالي، إنّ اختيار الموضوع في فيلم وولف، يرتبط ارتباطاً عضوياً بفكرة أنّ كل مواطن أميركي قادر على التأثير وإحداث التغيير في بيئته كفاعل سياسي. لذلك، ليس مستغرباً أن تتخلّل الفيلم نبرة تحريضية على العمل الجماعي والحقوق، فالخطب العاطفية ولحظات التضامن تتحدث إلى المشاهدين بقدر ما تتحدث إلى شخصيات القصة.
شخصية رستن في الفيلم تظهر في بعض الأحيان بطريقة لا تتناسب مع شكل الفيلم، ولا حتى عنوانه، الذي يعد المشاهد بصورة شخصية لرستن. يبدو الأمر كما لو أن شخصية رستن وحياته وصدماته النفسية وحروبه المدنية، قد جُردت من فرديتها، وأصبحت معاناة معمّمة. رغم أن الفيلم يصوّر بعض الأحداث المؤلمة من حياة رستن، عبر مشاهد فلاش باك قصيرة بالأبيض والأسود، إلا أن ذكريات الماضي لا تخبرنا في الواقع بأي شيء عن الشخصية. يأخذ الفيلم نهجاً فارغاً، يفتقر إلى الإبداع، كأنه صُنع على عجل، كسول، يحوي تركيبات مشاهد بسيطة وغير منظمة.
نظّم تظاهرة مارتن لوثر كينغ الابن التي شهدت الخطاب الشهير «لديّ حلم»


لم تُوظّف علاقة مارتن لوثر كينغ برستن والمسيرة الطويلة بينهما بشكل جيد. رغم أن شخصية كينغ أساسية في الفيلم، إلا أن كل شيء يبقى على السطح. ويزداد الأمر سوءاً بسبب أداء أمل أمين، غير القادر على نقل عمق شخصية كينغ وقوتها، اللازمين لتصوير شخص كان أحد أعظم المطالبين بإنهاء التمييز العنصري، والشخصية التي ناضلت من أجل الحرية وحقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم. الخطاب التاريخي في المسيرة، المعروف بـ «لديّ حلم»، يظهر خجولاً في المقطع الأخير من الفيلم. يمكن أن نفهم هذا القرار السينمائي، بأن الفيلم يتحدث عن رستن لا كينغ، ولكن في الواقع لا يمكن تفريقهما، كما لا يمكن تفريق سنوات النضال كلها واختزالها في ساعة ونصف الساعة. حتى الحدث نفسه، أي المسيرة السلمية تُترك جانباً وتُقدّم بطريقة باهتة بعض الشيء. في كثير من الأحيان، نسأل أنفسنا عن أي مسيرة يخططون ويتكلمون. لولا الكلمات النهائية قبل الختام، لما عرف كثيرون ربما أنّ هذه المسيرة كانت واحدة من أهم التظاهرات في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية والعالم.
فشل الفيلم في إيصال خطورة الأحداث والشخصيات الأخرى وأهميتها. كل شيء ينتهي بأن يصبح مبسطاً وتعليمياً. الفيلم الذي أخرجه وولف بنوايا حسنة، غير قادر على خلق أي توتر حقيقي. وبالمثل، يتعامل مع مثلية رستن، التي تصبح مجردة من عمقها، لا هوية حية دافع عنها رستن.
النجم الكبير هنا هو كولمان دومينغو، وليس مستغرباً أن يكون على قائمة المرشحين لجائزة الأوسكار في فئة أفضل ممثل. يقدم دومينغو أداءً رائعاً، يدور الفيلم حوله، فهو موجود في كل مشهد تقريباً. يترك وولف كل ثقل الفيلم على أداء كولمان، وهو على مستوى المهمة. بعيداً من مجرد التقاط تعبيرات رستن وإيماءاته أو طريقة حديثه، ينقل دومينغو ذكاء الرجل وعناده وفصاحته وقلبه الطيّب. وبدلاً من أن يجعله قديساً، يُظهر لنا عيوبه وصراعاته. مونولوجاته مليئة بالألم والغصب، والأمل أيضاً. عبر أداء دومينغو، نفهم لماذا كان يصعب التعامل مع رستن، وأيضاً كيف ألهم كثيرين بكلماته وطاقته.
بشكل عام، يعد «رستن» بمنزلة خيبة أمل، فهو صورة تفتقر إلى الخيال لمثل هذه الشخصية الرئيسية المعقدة، التي اختُزلت ليس فقط في التاريخ، بل أيضاً في الفيلم من جديد. يمكننا مشاهدة «رستن» بسبب الممثلين والخطابات النارية، ولكنه يفتقر مجازياً (وليس حرفياً) إلى موسيقى الجاز. لا توجد منعطفات غير متوقعة، ولا توتر، ولا نبض. لا يسعنا إلا أن نشعر أن أداء دومينغو وأهمية الشخصيات، يستحقان أكثر من معالجة فوضوية وعاطفية.

* Rustin على نتفليكس