بعد طول انتظار وتعديلات رقابية طالت أكثر من مشهد وصولاً إلى اسم الفيلم، حقّق «رحلة 404» (كتابة محمد رجاء وإخراج هاني خليفة) أحدث بطولات منى زكي السينمائية، ردود فعل إيجابية في شباك التذاكر، ليترك أكثر من علامة استفهام حول أسباب التعنّت الرقابي الذي عطّل الفيلم سنةً كاملةً.إذا كان هذا هو مستوى الفيلم بعد تعديلات الرقابة العديدة، فكيف كان مستواه لو خرج إلى الناس كما قدّمه صنّاعه؟ علامة استفهام من بين أسئلة عدّة فرضتها الحالة الإيجابية التي حقّقها فيلم «رحلة 404» أو «القاهرة مكة» كما كان اسمه سابقاً، منذ طرحه في الصالات المصرية الخميس الماضي، وسط توقّعات بتحقيق النتائج نفسها في الصالات الخليجية بداية هذا الأسبوع.
رحلة «القاهرة مكة» مع الرقابة، تعدّ الأغرب والأكثر تعسّفاً في العقدين الأخيرين. الفيلم الذي بدأ الحديث عنه في الصحافة منذ نحو عشر سنوات، انطلق تصويره فعلياً في عام 2021. جذب الانتباه منذ البداية بسبب اسمه «القاهرة مكة»، أي عاصمة المصريين ومدينة المسلمين المقدّسة. أما القصّة، فلم تكن قد تكشّفت بعد في البداية، ويمكن تلخيصها الآن بعد عرض الفيلم. تدور الحكاية حول فتاة ليل تدعى غادة سعيد (منى زكي)، قرّرت «التوبة» والسفر إلى الحج وبدء حياة جديدة، بعيداً من الأسباب التي دفعتها إلى سلوك هذا الطريق. طريق دخلته بعد قصّة حبّ فاشلة وأسرة مفكّكة لا تفكّر إلا في جني الأموال. قبل أيام معدودة من السفر، تتعرّض الفتاة لموقف يجعلها تحتاج إلى مبلغ كبير من المال، وهنا يعاودها الماضي من جديد: المال مقابل العودة إلى عالم الليل، فكيف ستتعامل مع هذا التحدّي؟ كل هذا في قالب حواري جريء وبلغة سينمائية امتاز بها المخرج هاني خليفة، وقدّمتها منى زكي بأداء راسخ، لتؤكّد أنّها قادرة على تقديم شخصيات فنية ذات قيمة عالية، وفي الوقت نفسه على تحقيق إيرادات في شبّاك التذاكر، أي إنها ليست نجمة تلفزيونية تتألق في موسم رمضان فقط.
كان يُفترض أن يُعرض الفيلم في «مهرجان البحر الأحمر السينمائي» في مدينة جدة السعودية في كانون الأول (ديسمبر) عام 2022، أي قبل نحو 15 شهراً. لكن الرقابة المصرية رفضت وقتها السماح بعرض العمل، مع العلم أنّ الرقابة لم تكن تتدخّل سابقاً في النسخ المعروضة في المهرجانات، ويمكن أن تحذف فقط قبل العرض الجماهيري. لكن كل هذه التقاليد لا تجد الآن من يحترمها. طلبت الرقابة تغييراً درامياً في شخصية أساسية يؤدّيها الممثل المصري محمد فراج، مع ملاحظات أخرى على بعض المشاهد. أمر تطلّب إعادة تصوير مشاهد محمد فراج مرة أخرى وجميعها مع منى زكي، ما زاد من الوقت المحدّد لإنهاء الفيلم. ثم كانت الصدمة الكبرى، عندما اعترضت الرقابة في مصر ونظيرتها في السعودية على اسم الفيلم «القاهرة مكة»، ليخرج العمل إلى الناس باسم جديد غير موجود في الأحداث، وهو «رحلة 404». اختير الأخير على اعتبار أنّه رقم الخطأ التقني نفسه في عالم البرمجيات، مع العلم أنّ رحلة البطلة تعرّضت لخطأ كاد أن يعطّلها، لكن لا يوجد في الفيلم، أيّ ذكر لرقم الرحلة ولا أيّ مشهد في الطائرة أو حتى قرب المطار.
لم يتوقّف الجمهور عند هذه الثغرة، بل أقبل على الفيلم الذي صعد إلى المركز الثاني في قائمة الأعلى إيرادات فور انطلاقه. خرج النقّاد، في مقدمتهم طارق الشناوي، يتساءلون عن سبب مخاوف الرقابة. اتّهموا الرقيب خالد عبد الجليل بالتعنّت أمام فيلم لو كان وصل إلى الجمهور بنسخته الأولى، لأعاد الكثير من هيبة السينما المصرية المهتمة حالياً بالكمّ لا بالكيف. بل إنّ التعنّت الرقابي حرم الفيلم من المشاركة أولاً في المهرجانات وحصد الجوائز، وبات فيلماً تجارياً فقط رغم أنه كان مؤهّلاً لتحقيق الكثير في الفعاليات السينمائية، وبات مرشحاً منذ الآن لتمثيل مصر في ترشيحات الأوسكار عن «أفضل فيلم أجنبي» التي تعلن في تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام. صحيح أننا ما زلنا في شهر كانون الثاني (يناير)، لكن المستوى الذي تمتّع به «القاهرة مكة» سابقاً، يجعل من الصعب توقّع طرح فيلم آخر هذا العام، قد ينافسه على خطف بطاقة التأهّل لترشيحات أوسكار 2025.

* «رحلة 404» بدءاً من هذا الأسبوع في الصالات اللبنانية ـ توقيت الطرح عرضة للتغيير