اتّخذ محمد دايخ من التلفزيون منصةً تمكّن من خلالها من جذب انتباه الجمهور ومحطة موقّتة لكي ينكبّ على ما يحب إنجازه فعلاً في مسيرته وهو المسرح والسينما. في حديث مع «الأخبار»، مليء بالفكاهة واللهجة الساخرة، يؤكد دايخ أن هدفه الأساسي لم يكن يوماً التلفزيون بل السينما: «لا أحب التلفزيون. وكل ما أفعله لأجله لا قيمة له بالنسبة إليّ. لكنني اضطررت إلى اللجوء إلى علي علوية وكوثراني لأنزل عند الجمهور اللبناني وأشدّه ليأتي إلى مسرحي، ولكي أريه كيف أصنع السينما. أنجزت مع قناة LBCI موسماً واحداً فقط، وهو أمر لا يحدث عادةً. لا تزال لدينا خمس حلقات بعد رمضان ولكنني لن أدنو من التلفزيون بعد الآن إطلاقاً». منذ لقطات الفيلم الأولى، يعرف المُشاهد أنه سيكون أمام أحداث قاسية وشخصيات عنيفة تعكس البيئة الاجتماعية والمكان الذي تعيش فيه. نرى شخصيتَي حسين (حسين قاووق) وأبو الفضل (حسين دايخ) ليلاً وتعاملهما العنيف مع شاب لأخذ حقّهما منه. تعيش الشخصيتان مع أمّهما أم حسين (رنده كعدي) وشقيقهما حمّودي (محمد عبدو) في أحياء الأوزاعي الفقيرة ويعملان في ترويج المخدّرات. أجواء الفوضى التي يعيشون ضمنها ستؤدي إلى سلسلة من التطورات الخارجة عن السيطرة وسترميهم في دوّامة عنف. كان من المفترض أن تُصوّر المشاهد في ضاحية بيروت الجنوبية، لكنّ التصوير جرى في النهاية في الأوزاعي لأن متطلبات التصوير هناك أقل تعقيداً، لذلك أجرى المخرج بعض التعديلات على الملابس واللهجة وتركيبة الشخصيات تماشياً مع خصائص هذه المنطقة. يحبّ دايخ كلمة «هردبشت» التي اختارها عنواناً لباكورته، وخصوصاً أنّ كل شيء كان متداخلاً عندما كتب النص الذي لم تكن له بنية بدءاً. كانت سلسلة مشاهد وصل في ما بينها في رأسه، فحتى كتابة النص كانت «هردبشت» على حدّ تعبيره.

رنده كعدي في الفيلم

عن موضوع الفيلم واستناده إلى حياة دايخ الحقيقية، يخبرنا الأخير: «منذ زمن أرغب في أن يكون أول فيلم أنجزه في حياتي شوارعياً، يتكلّم عن قسم من حياتي التي عشتها في الضاحية الجنوبية. جمعت أحداثاً حصلت معي وخلطتها في هذا الفيلم الذي يتضمّن معالجة درامية لنفسي ولأمي وإخوتي. كما في الفيلم، عائلتنا مؤلفة من شبان فحسب، وشعرت أنني أصوّر فيلم العائلة. هو مستوحى من حياتي الخاصة بكل نواحيها، باستثناء جريمة القتل التي تحدث وهي أمر لم يحصل معنا». يرفض دايخ من جهة أخرى اعتبار فيلمه «كوميديا سوداء» كما روّج له البعض على الرغم من الفكاهة التي لا تخلو منها بعض الحوارات بفجاجتها، مضيفاً: «إن نزلت إلى أي شارع شعبوي اليوم، لا يخلو الأمر من المزح والكوميديا السوداء. أنا أنقل مرآة الواقع كما هي وللأسف هي موجعة، لكن في الوقت عينه، لا بد من أن يكون هناك بعض الفكاهة الجريئة». الكل بات يعلم مدى جرأة دايخ وعدم تردّده في قول ما يفكّر فيه بصوت عال. هذه المرة، وبعيداً من التلفزيون والمسرح، ينقل ما يراه من واقع في مكان عاش فيه على الشاشة الكبرى، وهو يعي تماماً أنه لن يلقى تقبّل الجميع: «للأسف هذه البيئة لا تريد إلا أن تظهر ما هو جميل فيها، في حين يجب أيضاً أن نظهر الجانب السلبي لكي نعالجه أو نوعّي الناس وأنفسنا. هو نقد ذاتي. أنا من هذه البيئة وأنتقدها. ولكن هذا آخر ما أنجزه عنها. ضقت ذرعاً. هذا الفيلم أشبه بخاتمة عن هذه البيئة التي ترعرعت وولدت وعشت ضمنها، وقد ساعدتني في الأفكار والمحتوى، ولكن حاولت معها ونكرتني. سبق أن تكلّمت عن الموضوع في المسرح والتلفزيون والآن في السينما. انتهى الموضوع».
يشكّل «هردبشت» أول فيلم من إنتاج شركة «فينيسيا» لصاحبها أمير فواز الذي اهتمّ في الماضي بتوزيع الأفلام في المنطقة، وقد بدأت تركز جهودها على تعزيز الإنتاج اللبناني. وكان لدايخ أسلوب فكاهي في رسم الصورة والتحدث عن أولى خطوات فواز في الإنتاج وفي دوره داعماً للفيلم ومساعداً على إتمام المشروع: «هو أول فيلم لشركة الإنتاج التي عادة ما توزّع، لا تنتج. لم يطّلع فواز على الفيلم. هو فعلياً قد يُصدَم كالناس. أنا متأكد بأنّه بعد هذا الفيلم، لن يعود الى إنجاز فيلم شاعري. قد لا يتصل أيضاً بي. أنا لا أجيد طرق الأبواب. وكنت على موعد معه لكي أبيعه مسلسلاً كتبته مع منتج آخر، فاقترح عليه أن أرسل له شيئاً من عملي. صوّرت حلقة تجريبية مع الشباب أعجبته كثيراً وتبعاً لنصيحة من حوله، طلب منّي تحويلها إلى فيلم».
أحداث قاسية وشخصيات عنيفة تعكس البيئة الاجتماعية والمكان الذي تعيش فيه


لا يحبّ دايخ كلمة محترف عندما يتعلّق الأمر بالممثلين. عن مزجه بين ممثلين معروفين أمثال رنده كعدي، وغبريال يمّين وفؤاد يمّين وألكسندرا قهوجي وأشخاص عاديين لم يمتهنوا التمثيل يقول: «أكثر ناس عملت معهم على الشخصية هم يُفترض أن يكونوا محترفين. أحب أن آتي بأشخاص من الشارع، «زعران» لا تشعرين أنهم يؤدون دوراً. المحترف يأتي أحياناً بتاريخه وبالإيغو، على عكس من يرغب في إنجاز شيء جديد في حياته. أنا بعيد عن الأكاديميين والمحترفين. وجدت أن غابي (غابريال يمّين) يليق بتأدية دور رجل يملك بورة حديد ويأتي إليه الأطفال. اخترته لأن وجهه يليق بهذا الدور وليس لأنه محترف. رنده كعدي أمّ بالنسبة إليّ. وقلت إن الأوزاعي لا تليق إلا لهذا الوجه. فكّرت أولاً بكارول عبّود في هذا الدور ولكنها خافت من الفيلم. أما رنده فلم تتردد وتبنّت الدور ومكثت مع أمي لأسبوعين لتلتقط اللهجة الجنوبية». اتّبع الممثلون نصاً مكتوباً بحواراته، لكنّ دايخ ليس مع الأشخاص الذين يلتزمون كثيراً بالنص. «يهمني الالتزام بالفحوى. كتبت مئات المشاهد ورحت أستكشف كل مشهد وما الذي يعنيه لي. فكل مشهد في الفيلم يبدو كأنه كُتب وحدَه. حتى لو لم يكن موجوداً في الفيلم، يمكن أن تفهميه. في أحد المشاهد، يصوّب الدركي المسدس نحو زميله في المخفر، ويعلّق صورة الرئيس ليغطي الفساد. قد أعتبر هذا المشهد مثلاً كوميديا سوداء».
واجه فريق العمل الصعوبات، وخصوصاً أنّ الميزانية ضئيلة والتصوير في هذه المنطقة غير سهل. يقرّ دايخ أن «مايكنغ أوف» العمل هو فيلم بذاته وقد يصلح لأن يكون كوميديا. عن صعوبات التصوير في المنطقة وخصوصيتها، يجيبنا: «اضطررنا لدفع المال. وفي الوقت عينه ما ساعدني هو أنني ابن هذه البيئة وتمكّنت من التكلم معهم وبلغتهم. كان المشهد مضحكاً، إذ كنت أنا المخرج أصوّر نصف عارٍ وأتوجّه بلغتين مختلفتين إلى فريق التصوير والناس هناك».
بعيداً من المواضيع الاجتماعية التي تتمحور حول محيطه، يعدّ دايخ حالياً لفيلمين يكتبهما ويبحث عن إنتاج لهما. أحدهما مبني على مسرحيته «بقولو اسماعيل انتحر» فيه شخصيتان تتبادلان الكلام لمدة ساعة ونصف ساعة. يقرّ بأن البقاء هنا لم يعد يهمّه، بل يرغب حالياً في السفر والعمل على مواضيع بعيدة من هموم البلد الحالية.

* «هردبشت» بدءاً من يوم غدٍ الخميس في الصالات اللبنانية