تُسحر الديكتاتوريات الدراما التلفزيونية، تفتنها، والكثير من المسلسلات تناولت هذه الحالات آخرها مسلسل «النظام» (The regime) الذي تبدع فيه الممثلة الإنكليزية الماهرة كايت وينسلت. المسلسل القادم من شركة HBO، وكتابة ويل ترايسي (ككاتب ومنتج تنفيذي)، وستيفن فريزر وجيسكا هوبز (إخراج وإنتاج الحلقات). إنها دولةٌ في أوروبا الوسطى، مهد الديكتاتوريات كما يحاول المسلسل تقديمها لنا. ربما هي ألبانيا مع ديكتاتورها المرعب أنور خوجة، أو رومانيا مع ديكتاتورها المحلي نيكولاي تشاوشيسكو، لكن هذه المرّة يأتي الديكتاتور على شكل أنثى. تبرع البريطانية كايت وينسلت في تقديم شخصية مليئة بالتناقضات، والهفوات والأخطاء، ولكن مع قوةٍ مذهلة، وكاريزما، وطريقة تصرّف استثنائية. امرأة متقلبة، ولا أحد في مأمن من منطقها المريض: إنها تعدم أهم وزيرة لديها، وطبيبها الخاص لشكّها البسيط وغير المبرر بأنهما يخونانها. أليس هذا حال معظم الديكتاتوريين؟ ألا يموت معظم أصدقاء الديكتاتور لمجرّد شكّه بهم؟ أيمكن لأحدٍ أن ينسى صدّام حسين في مشهده المرعب والسوريالي في آنٍ حين وضع رفاق الأمس وحلفاءه في شبه «استعراض مسرحي»، وجرّهم واحداً تلو الآخر على رؤوس الأشهاد لمحاكمتهم «محاكمة عادلة وإعدامهم» (على رأي عادل إمام في مسرحية «الزعيم»). ألم يبك عليهم؟ ألم تنزل دموعه؟ هل كان صادقاً؟ بالتأكيد. ما كانت جريمتهم آنذاك؟ ببساطة: اعتقاده بأنهم يخونونه. هذا نفسه ما نراه في هذه الدراما التي تأخذ من الواقع الكثير.
تبدأ القصة مع الضابط (ماتياس شونارتس) الذي يحضرونه من السجن استعداداً لإعدامه. فجأة يجد نفسه أمام مساعدة (مارثا بليمبتون) للمستشارة (وينسلت)، تقوده إلى مهمته الجديدة. هو لا يفهم أي شيء، سوى أنه نفذ من حبل المشنقة. سرعان ما يدخل لمقابلة المستشارة، التي تطلب منه مراقبة «معدل الرطوبة والعفن»، وأن يبقى بجوارها حاملاً مجساً آلياً لقياس نسبة الرطوبة والعفن وإخبارها بالرقم طوال الوقت. في هذا المشهد، تتجلّى عبقرية كتابة النص، فضلاً عن مهارة وينسلت: تسأله بكل مباشرة: «هل التقينا قبل ذلك؟» هو يكاد ينطق، لكنها تعود وتكمل: «نعم لقد التقينا في أحد الأحلام. أين حصل ذلك؟ أتذكر؟» هو لا ينطق. هي لم تكن أصلاً تنتظره لكي ينطق. طبعاً، حكاية الرطوبة والعفن، وكل ما إلى ذلك، مردها إلى أنَّ والد المستشارة كان قد توفي بمرضٍ صدري رئوي. من هنا، فإنها تخشى على نفسها وتتعالج بالأوكسجين طوال الوقت، ناهيك بشعورها الدائم بأنها تشم رائحة عفن. ربما قصد الكاتب أنّ العفن هنا ذو بعد رمزي لوحشيتها كما شرح لوركا في مسرحيته «عرس الدم» بأن «القاتل يظل يشم رائحة الدم على يديه مهما غسلهما».
سرعان ما تبدأ الحياة بالتحرّك، فجأة، وكالعادة تظهر الولايات المتحدة الأميركية، عبر وزير خارجيتها الذي يريد التعاون مع هذا البلد لاستثماره اقتصادياً. وبحسب أوامر المستشارة التي أعطتها للضابط، فإنه من غير المسموح لأحد لمسها. هذا الأمر دفعه لمنع الوزير الأميركي وزوجته من التسليم عليها باليد ومصافحتها. هنا تخرج وينسلت فعلياً ما لدى هذه الديكتاتورة من غباء، وتطيّرٍ، وعناد وشخصيةٍ مريضة. في تلك اللحظة، تعتذر بسرعة من الحضور، ثم تتنحى جانباً مع الضابط، وتبدأ بصفعه بقسوة بالغة، مع لومه بأنه يصغّرها أمام الحضور، وأنه يعطيهم قوة عبر إظهارها ضعيفة ومريضة. طبعاً الضابط لم يتصرّف هنا، إلا بحسب أوامرها المباشرة والدقيقة. بعد ذلك، يُمنع من البقاء حول المستشارة، لكن لأنها «رحيمة» تسمح له بأن يبقى مشرفاً على قياس الرطوبة والعفن لكن في الليل فقط. طبعاً هنا نعرف بأن هذا الضابط كان مسؤولاً عن قتل مجموعة من السجناء في مذبحة أصبحت معروفة دولياً. خلال إحدى الليالي وأثناء جولات هذا الضابط، ينقذ المستشارة من أحد القتلة الذين تربّصوا بها بشكلٍ مفاجئ. طبعاً يبدو أنها تعرف القاتل، لكن العلاقة لم تتضح بعد. هذا الإنقاذ يعيد الضابط إلى حظوته لدى المستشارة. يجد المشاهد أنه أمام أحد أهم النقاشات بين الديكتاتور ومن حوله: هي تسأله: «أتعرف لماذا أنت هنا؟» هي لا تهتم بإجابته، لا تعنيها، فتكمل: «أنت هنا لأنك لا أحد. وهذا ليس فيه شيءٌ من إهانة، هذه حقيقة تقريرية». هي تؤكد له. «أنت هنا، لأنني أريد أن أسمع رأي اللاأحد في ما أقوم به. أنا لا أعرف شيئاً عن اللاأحد، وأريد أن أعرف، ليس لأنني أهتم، بل لأنني أريد أن أعرف». هنا يقرر الضابط أن يركب الموجة، والضابط الذي كان قد أظهر لنا في السابق أنه ينظر إلى المستشارة ليس على أنّها قائدته فقط، بل كما لو أنها «إلهة منزلة»، يقرر أن يخبرها الحقيقة وبلغته المباشرة. «الأميركيون يلعبون بنا، وبكِ، يريدون أن يظهروا بأنك ضعيفة وبأنك لا تستطيعين قيادة البلاد، ووزراؤك يريدون ذات الأمر. فماذا أنتِ فاعلةٌ».
ربما هو واحدٌ من أهم مسلسلات هذا العام، يقدّم حبكة مدهشة، مليئة بالواقعية اللافتة، من جهة، فضلاً عن أداء متقن واحترافي من أبطال العمل، وخصوصاً نجميه الرئيسيين (وينسلت وشونارتس). وعلى ما يبدو أن نجمة «التايتنيك» قد نضجت إلى حدٍ كبير الذي جعلها تلبس شخصية معقدة نفسياً وأدائياً إلى هذا الحد. في الوقت نفسه، حافظ مخرجا العمل فريرز وهوبز على لغة سينمائية جميلة، فصورا الديكتاتورة/ المستشارة وهي في حالاتها المختلفة القوية المدمرة والضعيفة الخائفة، مع المحافظة على الهالة ذاتها من الوحشية والشخصانية المذهلة التي تتخصّص بها هذه الشخصيات.
--
* The regime على HBO
--