لن يكون مفيداً كثيراً الحديث عن تاريخ الراحل الدرامي، هو الذي احترف صناعة الشهرة طوال مشواره: الصيغة المثالية لقصص النجاح، وتحويل العادي والرّتيب إلى متوّهج. بدأ المشوار من عامل بسيط في التلفزيون السوري، لحين التقاطه تفاصيل المهنة وتدرّجه ليصبح مساعد مخرج، ثم مخرجاً منفّذاً. بعدها، تصدى سنة 1991 لتجربته التلفزيونية الأولى «الخشخاش» (كتابة فؤاد شربجي ـــ وبطولة: سلوم حداد، وعباس النوري، وأيمن زيدان، وفادية خطاب، وسلمى المصري، والراحلة ملك سكر). احتلّ مساحته الوجدانية الواسعة في ذاكرة جيل كامل عندما قدّم مسلسل الأطفال «كان يا ما كان» بجزءيه، واستقدم عليه مجموعة كبيرة من الممثّلين الشباب، الذين بدأوا من هذا المختبر الذي حوّل حكايا الجدّات إلى واقع درامي مصوّر.
كانت البداية التأسيسية للنوع الذي اشتهر فيه لاحقاً وتفرّغ له مع «أيّام شامية» (1992 ـــ كتابة أكرم شريم ــــ بطولة: رفيق السبيعي، وعباس النوري، وناجي جبر، وعدنان بركات، وخالد تاجا، ووفاء موصلي، وسامية الجزائري وهالة شوكت). المسلسل الذي قدّم حكاية شعبية بسيطة، صاغ فرجة شامية مترفة بالحنين وإعادة تدوير التفاصيل بسوية جذّابة ورؤية بصرية لها نكتها الخاصة. في موعد عرضه في سوريا، حوّل المسلسل الحياة إلى شبه حظر تجول. الحالة ذاتها أعيدت في «الخوالي» (2000 ـــ كتابة أحمد حامد ــــ وبطولة: بسّام كوسا، أمل عرفة، هالة شوكت، سليم كلاس، سليم صبري). هنا انتصر بسّام الملا للإرادة الجمعية، صانعاً بطلاً شعبياً من وهم! انتصر لرغباته ومرّغ أنف المحتل بالوحل، من دون أن يغفل قصّة حبه البسيطة. «نصار ابن عريبي» صار مخلّصاً. أراد الجمهور ــ رغم قناعته بأنه خيال ـــ أن يعلّقه تميمةً تحميه من العوز والفقر والجوع والذل. السرّ بأن الملّا كان يجعل مشاهديه يشبهون حد التطابق شخصياته، وهي تستمع للحكواتي في المقهى بمنتهى الحماس. مهما بلغتَ من ثقافة ومعرفة، يعرف كيف يشّدك، خاصة إذا كنت من عشّاق البلاد التي تسكنها! الوصفة المثالية ذاتها ستُعاد في «ليالي الصالحية» (2004 ـــ كتابة أحمد حامد ــ وبطولة: عباس النوري، بسّام كوسا، قيس الشيخ نجيب، كاريس بشار، هالة شوكت، سامية الجزائري، رفيق السبيعي، سليم كلاس، منى واصف، وائل شرف) بحكاية موغلة في البساطة وقصّة الأمانة التي نذر «المعلّم عمر» حياته لأجلها. سيتسمّر المشاهد أمام 30 حلقة تلفزيونية شامية... ليفتح الملّا سنة 2006 «باب الحارة» (مروان قاووق) ويحقّق جماهيرية غير مسبوقة، قبل أن يتحوّل العمل إلى مشروع تجاري بحت.
صاغ في «أيّام شامية» فرجة مترفة بالحنين والرؤية البصرية
كلّما تمرّد بطل، قتله بسّام الملا وأكمل الحكاية بدونه. هنا، لا صوت يعلو فوق صوت المخرج! المسلسل على علّاته والاختلاف النقدي حوله، كان مصنع نجوم. أطلق جماهيرية كبيرة لسامر المصري، ووائل شرف، ومصطفى الخاني وآخرين. لم يتوقّف حتى تعرّض للسطو من قبل شركة أخرى. بعضهم يقول بأنها شريعة العدل الحياتية كون المسلسل أصلاً أُنتج في شركة «عاج» (هاني العشّي) وأكمله بسّام الملا وحده من خلال شركته. لكنه أخيراً أنتج منه نسخاً مشوهة أكثر من التهاوي الذي وصله في أجزائه الأخيرة. آخر ما حرّر كان تخلّيه عن دوره كمخرج والاكتفاء بإشرافه وإنتاجه لجزءين من «سوق الحرير» (كتابة حنان المهرجي وسيف رضا حامد) من دون أن يحقّق العمل أي حضور يُذكر.
الأكيد بأنّ الملا أسهم في «بدعة» سميّت مجازاً دراما شامية رغم أنها كانت موجودة قبله، لكنّه ظهّرها وكرّسها قبل أن يقّلده كثيرون من دون أن يتمّكن أحد من الوصول إلى عتبته ووصفته وجاذبيّته. صارت الفضائيات العربية كلّها مسلسلات شامية. لم يعد مطلوباً من سوريا سوى إنتاج هذه الأعمال. لكن لو ترك بسّام الملا لنوعه، لظلّ الأمر بحدوده الطبيعية مجرّد نوع في سوق يحوي كل شيء. والأكيد بأنه مهما اختلفنا نقديّاً مع منجزه، واشتبكنا مع منطق أعماله، لن يثنينا ذلك عن القول بأنه في رحيله، تطوي الدراما السورية الصفحة الأكثر شهرة في تاريخها.
* يصلى عليه اليوم في «جامع الأكرم» بعد صلاة الظهر ويدفن في مقبرة بئر السبيل الثانية (جوعيه) ــ تقبل التعازي بدءاً من الخامسة من بعد ظهر اليوم الاثنين والثلاثاء في صالة دار السعادة في المزة