غالباً، لا يعرف الجمهور العربي شيئاً وافياً عن كولومبيا، سوى عالم المافيات وبابلو إسكوبار وقصّة مدافع منتخب بلادهم لكرة القدم الذي وضع هدفاً بالخطأ في مرماه ضمن مباريات نهائيات كأس العالم فأطلقت عليه إحدى المافيات الرّصاص وقتلته عندما عاد إلى وطنه! لكن لماذا علينا أن نعرف أكثر عن كولومبيا؟ ربّما هذا السؤال هو ما أخذه جديّاً على عاتقهم كل صنّاع فيلم «أمبارو» (95 دقيقة - إخراج سيمون ميسا سوتو - وإنتاج كولومبيا والسويد - عُرض للمرة الأولى في «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» بدورته الأخيرة). الشريط الذي يُسابق بأحداثه الزمن، مع سباق الأم «أمبارو» وحيدة، في محاولة لتحرير ابنها المراهق عندما تعرف أنّ الجيش الكولومبي جنّده بالقوّة، وعلى وشك إرساله لأخطر جبهات الحرب الأهلية، لتتحوّل عملية الإنقاذ إلى صراع من أجل بقاء أسرتها. البنية الجوهرية للحكاية تشبه ما يحصل في بلداننا العربية، ومحاولة الجميع حماية نفسه من حرب لا تكون حربه، وموته المحقّق الذي لا يريده في سبيل أي شيء كان! خلال رحلة الأم والزمن الفعلي للقصة الذي لا يتجاوز اليومين، يصحبنا المخرج في رحلة خاصة من نوع مختلف، تخلق غوايتها من الفقر والانحدار الخدماتي، والخوف الذي يُسيطر على كواليس وشوارع البلاد! فيما يكاشف لنا حال القاع من خلال العلاقات الاجتماعية للأم وخطاياها، من دون أن يتنازل عن تصدريها لنا كما تستحق الأم. مجرّد ملاك يشبه الماء النازل من السماء بطهره. يستعد أن يلوّث نفسه بأي شيء من أجل أن يحمي أطفاله. بعد أن يخذلها كلّ المقرّبين، بما فيهم الرجل الذي تجمعها به علاقة، نكتشف لاحقاً أنه زوج صديقتها، ستقصد «أمبارو» طليقها ووالد ابنتها، لكنه ليس والد المراهق، وتطلب مساعدة مالية بحجة أنها سترسل ابنته في رحلة. هنا، يرصد الشريط واقع الزوج في حياته الجديدة، وعلاقته مع عائلته السابقة. على هيئة غير معتادة، وبصيغة تنأى بنفسها عن كلّ هذا التهالك الحاصل في كلّ مكان، نتعرّف على رجل ناضج يفهم أنّ عليه أن يحافظ على علاقة طيبة مع والدة ابنته، لكي يحمي علاقته بابنته! تعترف الطفلة لأبيها بأنّه ليس هناك رحلة. ومع ذلك، يقرّر دفع ما يملكه لطليقته التي تخبره قصة ابنها. طبعاً كلّ ذلك بعد أن تطلب شبكة فساد تصل إليها الأم مبلغاً مرهقاً تجرّب بشتى الوسائل أن تجمعه من دون فائدة. ومع ذلك لا تيأس! تحمل ما استطاعت إليه سبيلاً من مال، وتذهب للمسؤول لكن الأمر لا يتم. هنا، تطلب أن تدفع بطريقة ثانية، عندما يحاصرها الفشل من القدرة على الوصول للمبلغ المطلوب! هكذا، تمضي وقتاً مع الشخص المسؤول تكون فيها على سريره أشبه بصنم ينتظر أن يمرّ الوقت. بعدها، يخبرها أنّ الأمر تمّ ويمكن الذهاب لاصطحاب ابنها. وبالفعل تقصد المعسكر لكنها تتفاجأ بترحيل ابنها مع بقية زملائه. يطلب منها أحد أفراد الشبكة التي ساعدتها أن تعود إلى البيت، وتنتظر ابنها هناك، وهو ما يحصل مع نهاية الحكاية. يمكن التماس البساطة الواضحة في القصة، وكذلك هي الصيغة المعتمدة في أسلوبية التصوير. وهو ما يمنح الفيلم بُعداً توثيقياً بنفس روائي! الإضاءة وشكل الوجوه الكالحة، صباحات المدينة، ليلها المعتم، حتى حاناتها والعلاقات الحميمية فيها... كلّها تنضح بالحياة، ولو كانت حياة مرّة وموجعة لكنها تختصر لنا شكل كولومبيا التي نتعرّف عليها بصيغة مختلفة عمّا سبق. الملاحقة السينمائية المتّزنة لرحلة الأم تأخذ على نفسها أن تصوغ شكل الواقع في البلاد، وتشرّح يوميّاته وتخبر من خلال الوجوه والممرّات عنه أكثر ممّا يمكن أن تفيدنا به أيّة روايات مباشرة!