اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي العربية بخبر عن الفنان العربي الكبير دريد لحام عنوانه العريض: «دريد لحام يقول: «التطبيع قادم ولستُ ضده»»! وامتلأت المواقع بتعليقات مندّدة بموقف دريد لحام، بعضها وصل إلى حد الشتائم، متهماً إياه بالانضمام إلى جوقة التطبيع العربي الأخيرة وبقية الفنانين من مهرّجي «السلام».هل حقاً انضم دريد لحام، صاحب المواقف القومية والعروبية المعروفة، إلى «حفلة السلام» العربية؟
لنضع الأمر في سياقه. القصة كلّها كانت من مقابلة (عن بعد) أجرتها القناة العربية لشبكة «سي. أن. أن» الأميركية (CNNArabic) مع الفنان الكبير امتدّت على 35 دقيقة تنوّعت فيها مواضيع الحوار، وكان واضحاً أنّ دريد لحام يجيب بصورة ارتجالية بدون ترتيب ولا إعداد مسبق. وعند الدقيقة الـ 8 من المقابلة، أجاب دريد على سؤال طرحه المذيع بشأن التطبيع واتفاقيات السلام العربية/ الإسرائيلية الأخيرة، قائلاً بالحرف: «اتفاقيات السلام، أو ما يُسمى التطبيع، قادم، وأنا مش ضدّه». هذا هو المقطع الذي أثار الضجة، وقد تم اقتطاعه من المقابلة كلها واستخدامه في الهجوم على دريد لحام وكيل التهم له. ولكن الموضوعية تقتضي القول بأنّ دريد لحام أكمل كلامه واضعاً شروطاً تكاد تكون تعجيزية من أجل قبول السلام والتطبيع. في ما يلي النص الكامل لكلام دريد لحام وإجابته على السؤال المتعلّق بالتطبيع:
«اتفاقيات السلام، أو ما يُسمى التطبيع، هو قادم، وأنا مش ضدّه على شرط أن يكون حسب المبادرة العربية التي طُرحت سنة 2002 في القمة العربية ببيروت وشروطها: أن تكون هناك دولة فلسطينية عاصمتها القدس، دولة قابلة للحياة. أن يُعطى الفلسطينيون حق العودة. أن تعيد إسرائيل الأراضي العربية المحتلة إلى دولها. لمّا تتنفذ هذه الشروط ما في مانع من التطبيع أو اتفاقيات السلام».
إذن واضح تماماً من سياق الكلام أنّ لحام ـــ ولا ننسَ أنّه يحاور وسيلة إعلام أميركية كبرى ـــ يلجأ إلى الأسلوب نفسه الذي كان الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد يستخدمه، ومن قبله الرئيس جمال عبد الناصر، في رفض السلام والتطبيع مع الكيان الصهيوني، ولكن في الوقت عينه بدون الظهور أمام العالم بمظهر المعادي لفكرة السلام من حيث المبدأ (فكرة «السلام» المجرّدة والمطلقة هي قيمة إنسانية سامية يسعى لها كل البشر) عن طريق وضع سلسلة شروط للسلام، محقّة طبعاً ويمكن للعالم تفهّمها وقبولها، ولكنها تعجيزية وغير عملية ولا قابلة للتحقيق مع هذه الدولة الصهيونية العنصرية التي اسمها «إسرائيل». فهل يمكن لإسرائيل أن تقبل بعودة 8 ملايين فلسطيني؟! بالتأكيد لا، لأنّ ذلك يعني زوالها كدولة يهودية وانتهاء الحلم الصهيوني. وهل يمكن لإسرائيل أن تنسحب من القدس وتعيدها للفلسطينيين ليجعلوها عاصمة لهم؟! الجواب أيضاً بالنفي، لأنّ «أورشاليم» تمثل رمزية الحلم الصهيوني والأساس الذي ارتكز إليه مشروع الدولة اليهودية. فهذه الشروط التي يضعها دريد لحام إنما هي من باب «رفع العتب»، فلا هي ستتحقق ولا هو سيطبّع. كأنه يقول لمذيع «سي. أن. أن»: دعهم ينفذونها ثم ارجع إليّ وطالبني حينها بالسلام والتطبيع!
لم يطبّع صاحب «ضيعة تشرين» ولم يزُرْ «إسرائيل» ولم يجتمع بالصهاينة ولم يرقص معهم ولم يرفع أعلامهم


نقطة أخرى تتعلق بإشارة دريد لحام (المقصودة) إلى القمة العربية سنة 2002 وهي التي ترأّسها الرئيس اللبناني (المقاوم) إميل لحود. ونحن نذكر يومها الخلافات التي نشبت بين القادة العرب بسبب إصرار لحّود على إدراج نص صريح في البيان الختامي يذكر «رفض كل أشكال التوطين»، بالإضافة إلى حل قضية اللاجئين الفلسطينيين على أساس القرار الدولي 194 (أي: حق العودة)، وهو ما حصل بالفعل بحكم رئاسة لحود للقمة. بل إنّ دريد لحام لم يتوقف عند ما ذكرناه، بل تابع قائلاً: «بدي اسأل لماذا اتفاقية سلام بين دولتين يفصل بينهما 5 أو 3 آلاف كيلومتر؟ ما هو الخطر المتبادل بين هاتين الدولتين لحتى تيجي تعمل اتفاقية سلام مع دولة ليس لك حدود معها أصلاً وبعيد عنها آلاف الكيلومترات؟! أنا يتهيأ لي أنّ المسألة لعبة دولية كبيرة لتفتيت العالم العربي». وتابع كلامه عن خطوات التطبيع: «هذه الخطوات كثير بكّير عليها. كان ممكن تكون، برجع بأكّد، حسب المبادرة العربية سنة 2002...». وأعاد ذكر الشروط مرة أخرى.



وهكذا نرى أنّ دريد لحام ـــ خلافاً لما يقال عنه على وسائل التواصل ــــ لم يكن في وارد تأييد التطبيع واتفاقيات السلام الأخيرة، بل على العكس تماماً كان يعارضها وينتقدها باعتبارها في غير أوانها، ولا تلتزم بالشروط المطلوب من العدو تنفيذها قبل الوصول إلى مرحلة السلام معه.
من ذلك كله، نصل إلى نتيجة أنّ دريد لحام لم يطبّع ولن يطبّع ولا حتى هو مع التطبيع! ومن الظلم الشديد، بل التفاهة، وضعه في خانة داعمي التطبيع العربي المجاني والرخيص الذي رأيناه أخيراً. كل الذنب الذي ارتكبه دريد لحام هو سوء تعبير ناتج عن الارتجال، حين استهلّ جوابه بعبارة «التطبيع قادم ولست ضده» بينما كان يقصد شيئاً آخر تماماً (شرحه ووضّحه بعدها مباشرة). لولا تلك الزلة اللسانية لكان كلامه كله لا غبار عليه.
لم يطبّع صاحب «ضيعة تشرين» ولم يزُرْ «إسرائيل» ولم يجتمع بالصهاينة ولم يرقص معهم ولم يرفع أعلامهم. ولا تحدّث صاحب «كاسك يا وطن» عن «التعاون العلمي والاقتصادي» مع «إسرائيل»، ولا قام صاحب «غربة» بالترويج للفراولة والأفوكادو «الإسرائيلي»... ولن يفعل.

* كاتب وباحث من الأردن

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا