مقارنةً بالدورات القليلة الماضية فقط، وليس بشكل مجرَّد، تستعيد «مهرجانات بعلبك الدولية» بعضاً من مستواها الفنّي المفقود رغم استمرار الملاحظات على جوانب عدّة من برنامجها الفنّي لهذا الصيف. هذا التحسُّن الذي بدأ السنة الماضية بشكل نسبي واستمر هذه السنة ، يطال موسيقى الجاز والأنماط القريبة منه، بعد انحدار قاتل في العقد الأول من الألفية الثالثة (باستثناء دورة 2001). تحسّن آخر، شكلي هذه المرة، طال الموقع الإلكتروني للمهرجان، إذ تمّ تجديده ليصبح التعاطي معه سهلاً ومفيداً. لكن في مقابل هذه الإيجابيات، ثمة ثغرة هذه السنة لناحية الموسيقى الكلاسيكية الغربية بكل أشكالها، فهي تغيب كلياً عن «بعلبك»، بما أن حضور الباريتون جوزيه فان دام لا يأتي ضمن إطار الأوبرا، بل تحيةً لكارلوس غارديل، رمز التانغو التاريخي. مع الإشارة إلى أن هذه الثغرة، بشقّها الآلاتي (وليس الغنائي الأوبرالي) هي القاسم المشترك بين جميع المهرجانات اللبنانية.
يعتبر من روّاد الفيوجن والـsmooth والفانك السَلِس والـgroove الجميل وغير الهجومي
إذاً، تنظّم «مهرجانات بعلبك الدولية» هذا الصيف حفلتَين مخصَّصتين للجاز، في مقابل غياب تام لهذا النمط في جميع المهرجانات، إذا ما اعتمدنا بعض الكلاسيكية في تصنيف الفنانين الذين يقدّمون هذه الموسيقى. بمعنى آخر، نشرك في هذه الصفحة الفنان Seal الآتي إلى «بيت الدين» باعتبار أنه الأقرب إلى موضوعها من دون أن يكون ممثلاً للجاز في المهرجان الشوفي.
الحفلة الأولى هي مفاجأة كبرى لمحبّي تيار اشتهرت به السبعينيات خصوصاً، وهو الجاز الرقيق، المطعَّم ببعض الفانك أيضاً وبتوجّهٍ نحو موسيقى الاسترخاء، من دون أن يشاركها صفة السطحية. هذا التيار يتمثّل في «بعلبك» بأحد مؤسّسيه وأكبر رموزه الأحياء، عازف البيانو والكيبوردات (فاندر رودز، سنتيسايزرز…) الأميركي بوب جايمس (12/8) الذي يُحضر معه فرقته التي تضم إليه ثلاثياً كلاسيكياً في هذا النمط (غيتار، باص ودرامز). بالمناسبة، إنها التركيبة الرباعية التي تحاكي فرقة جايمس الشهيرة التي أسسها مطلع التسعينيات والمستمرّة في العمل لغاية اليوم ونقصد طبعاً Fourplay (آخر ألبوماتها صدر السنة الماضية).
الحفلة الثانية ليست بالأهمية المحاطة بها سوى أن الضيفة المدعوة هي ابنة نينا سيمون. عام 1998، قبيل رحيلها، دُعِت نينا إلى «بعلبك» وأحيت أمسية استثنائية. لكن ليزا سيمون (21/8) لا يجوز الاحتفاء بها بالحماس نفسه الذي كانت تستحقّه والدتها، لمجرّد أنها ابنتها! مع ذلك، يبقى حضور مغنية الجاز السمراء مرغوباً فيه في هذه الأوضاع التي لا تسمح ربّما بدعوة أسماء الصف الأول في الغناء الأسود. وهنا يجب القول إنّ انتقادنا لبرمجة المهرجانات يبقى ضمن الاعتبارات الفنّية من دون الأخذ في الاعتبار أي معايير أخرى. بينما إن أدخلنا الحيثية الأمنية، تسقط فعلاً الملاحظات السلبية، لأن سلامة الفنانين الكبار ليست شأناً خاصاً فحسب، بل إنها تدخل أحياناً في حسابات مدير أعمالهم والشركة المنتجة لألبوماتهم والمنتج القيِّم على جولاتهم وحفلاتهم.
في 12 آب (أغسطس) المقبل، يستقبل معبد باخوس الروماني الموسيقي العتيق بوب جايمس (1939) مع فرقته. لا يشير الإعلان على الصفحة الرسمية لـ «مهرجانات بعلبك الدولية» إلى البرنامج المنتظر. وفي هذا النوع من الحفلات، قد يقدّم الرجل باقة من أعماله الكثيرة جداً، بين كلاسيكياته القديمة وأعماله الجديدة، أو قد يركز على آخر أعماله ويختتم الحفلة من خارج البرنامج بعنوان معروف، كالموسيقى التي وصلت إلى الجمهور من فيلم «تاكسي» التي كانت لها المساهمة الكبرى في شهرة مؤلفها.
بدأ بوب جايمس مسيرته مطلع الستينيات كعازف بيانو مرافق لفناني تلك الحقبة (عمل مثلاً إلى جانب أسطورة الغناء ساره فون) قبل أن تذهله الاكتشافات في مجال الآلات ذات المفاتيح التي تسمح بمروحة أصوات واسعة. ولمّا كان الجاز الكلاسيكي قد أعطى أفضل ما عنده حتى بلغ انفجارات لم تعجب الجميع (كالجاز الحرّ)، قرّر جايمس تقديم جديدٍ انطلاقاً من الجاز، فكان من روّاد الفيوجن والـsmooth والفانك السَلِس والـgroove الجميل وغير الهجومي على طريقة الـ «كروسايدرز». هكذا راح يقدّم الألبومات الخاصة، ويتعاون في أخرى مع موسيقيين يشاركونه التوجّه الموسيقي، أبرزهم عازف الغيتار أيرل كلاغ وعازف الساكسوفون دايفد سانبورن.
مطلع التسعينيات، اجتمع مع شلّة موسيقيين مخضرمين لإنشاء فرقة جديدة تحت اسم Fourplay. إنها من أكثر فرق الجاز المعاصر نجاحاً على المستوى التجاري، إذ بلغت ألبوماتها الأولى أرقاماً في المبيع لم يبلغها الجاز في تاريخه، رغم أن ذلك حصل في التسعينيات، أي ليس في فترة مؤاتية لهكذا تجارب (كالسبعينيات).
إلى جانب عمله في هذا النمط من الجاز، والمبني بشكل أساسي على مؤلفاته الخاصة لا على استعادات، كان لبوب جايمس تجربة في إعداد أعمال كلاسيكية على طريقته (وبالأخص لمؤلفي حقبة الباروك)، وله في هذا المجال ألبوم مبني على سوناتات دومينيكو سكارلاتي وآخر يحوي إعداداً لمجموعة من أعمال رمز الباروك الفرنسي، جان-فيليب رامو.
لجايمس عشرات الألبومات، وعشرات المشاركات في تسجيلات آخرين (عزفاً أو توزيعاً أو إنتاجاً)، وقد عمل معه من باتوا في الصف الأول لاحقاً، مثل ماركوس ميلر (باص) وبوبي ماكفارِن (غناء) وستيف غاد (درامز) الذي شارك أيضاً في آخر تسجيلاته.