في شباط 2020 دعت شركة طيران الشرق الأوسط «ميدل إيست»، في إعلان بعنوان: «MEA Cadet Pilot Programme»، الشباب من الجنسية اللبنانية الذين لديهم دينامية ويحبون العمل الشاق، ولديهم تصميم وإبداع، التقدّم إلى برنامج تعليم وتدريب الطيارين في الشركة. وبمعزل عن كل المؤهّلات المطلوبة جسدياً وتعليمياً وصحياً، فإن من بين الشروط أن يكون لدى المتقدّم 160 ألف دولار، أو لديه قدرة على الاستحصال على ضمانة مالية مصرفية بقيمة 130 ألف دولار، أو رهن عقاري بقيمة لا تقلّ عن 165 ألف دولار. يمثّل هذا المبلغ الحدّ الأساسي لكلفة مدرسة الطيران لدى «ميدل إيست»، وسيتم التخرّج منها برتبة «طيار مساعد». وإذا كان متوسط مدّة العمل المتوقّعة في هذه المهنة لا يزيد عن نحو 20 سنة، فإن ردّ كلفة الاستثمار يفترض ألا يقلّ الراتب عن 8 آلاف دولار تُخصّص بكاملها لردّ هذه الكلفة. وهذا من دون احتساب كلفة الاستثمار الجامعية أو ما سبق الانضمام إلى مدرسة الطيران.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

رغم ذلك، فإن رواتب الطيارين في الشركة لا تمثّل أكثر من 6% من مجموع الإيرادات. وقد حافظت إدارة الشركة على ثبات هذه النسبة طوال السنوات العشر الماضية، باستثناء سنة 2020 التي سجّل فيها قطاع الطيران تراجعاً حاداً في الإيرادات سببه انتشار جائحة كورونا والإغلاقات التي حصلت حول العالم، ما أدّى إلى ارتفاع النسبة تجاه الإيرادات التي تراجعت في هذه السنة تحديداً، إذ سجّلت شركة طيران الشرق الأوسط خسائر في ميزانياتها بقيمة 45 مليون دولار، إنما احتُسبت كل الإيرادات وكل النفقات على أساس سعر صرف يبلغ 1507.5 ليرات وسطياً لكل دولار، ولم يُعرف إن كانت هذه الإيرادات هي فعلاً محصّلة بهذا السعر، وإن كانت النفقات أيضاً كلّها بهذا السعر. لكنّ الواضح، أنه مهما ارتفع أو تصحّحت أجور الطيارين و«عمال الأرض» في الشركة، فإنها أقلّ بكثير مقارنة مع وجود إيرادات أكيدة محصّلة بـ«الدولار الفريش». أي أن هذه البيانات يجب تصحيحها أو تُعدّ مزوّرة، وهو الأمر الذي أشار إليه المدقق المالي بأنها لا تعبّر عن الحقيقة الفعلية.
المهم، أن حصّة رواتب الطيارين من الإيرادات تُعدّ متدنية جداً، لا بل تظهر الأرقام على مدى السنوات العشر الأخيرة، أن حصّة الأرباح كانت تتزايد فيما حصّة الأجور والرواتب في الشركة والتي تتضمن أجور الطيارين وعمال الأرض، كانت على مسار انحداري. وتشير الأرقام أيضاً إلى أن حصّة الرواتب والأجور الإجمالية كانت موازية وأقلّ في بعض السنوات من حصّة كلفة التسويق. إدارة الشركة قرّرت أن تنفق على التسويق ضعف ما تنفقه على الطيارين، وما يعادل كل ما تنفقه على كل الموظفين.
هذا هو نموذج الأعمال الذي تقدّمه شركة «ميدل إيست»، وهو نموذج لا مثيل له بين كل نماذج العمل الرأسمالية، بكل توحّشها. فهذه الشركة لم تضطر أن تنافس شركة أخرى في العقدين الأخيرين، وهي لم تقم باستثمارات واضحة وشفّافة، إذ إن شراء الطائرات، ثم بيع بعضها، واستئجار عدد من الطائرات، كلّ ذلك يترك انطباعاً بأن استراتيجية الشركة المبنية على الاحتكار، ليست واضحة، أي أنها تستعمل الاحتكار التجاري من أجل إخفاء النفقات وليس ضمن خطّة واضحة لتعزيز أصول الشركة. فهي تملك احتكاراً من الدولة اللبنانية بوصفها الناقل الوطني، ويمنحها هذا الاحتكار حرية الحصول على الأوقات التي تريدها في مطار بيروت الدولي، وعلى أفضلية في كل المجالات الأخرى، تفوق كل شركات الطيران الأخرى التي تعمل انطلاقاً من مطار بيروت. ولديها احتكار خاص بها أيضاً، يتعلق بحرية اتخاذ القرار التجاري لتسيير رحلات إلى هذه الجهة أو تلك من دون أي حساب للمصلحة الوطنية. وبموجب هذه الاحتكارات لديها حرية مطلقة في تسعير تذاكر الطيران بأسعار أعلى كثيراً من غيرها.
في الواقع، إن مجموع الإيرادات التي حقّقتها الشركة في السنوات العشر الأخيرة، يبلغ 7 مليارات دولار. حصّة الرواتب والأجور بلغت 674 مليون دولار. إدارة الشركة أنفقت نحو 683 مليون دولار على التسويق، أي 101.3% من الأجور على التسويق! أما بالنسبة إلى الأرقام المحقّقة فقد بلغ مجموعها 694 مليون دولار جرى توزيع القسم الأكبر منها على المساهم شبه الأوحد، أي مصرف لبنان. أين أنفق مصرف لبنان كل هذه الأموال؟